آراء وأعمدة

الكاتب والاعلامي العربي الكبير يكتب لكم دفتر فراج إسماعيل

الحالمون بحظ “بنزيما”!

عندما يقرأ أي أم وأب عقد النجم الفرنسي كريم بنزيما مع اتحاد جدة، لن يحلم لأبنائه بأكثر من ركل جلد منفوخ بالهواء، وبأن يتطور ويكبر نجمه مع ذلك الجلد الذي نسميه “كرة القدم”!
أبناؤنا هذه الأيام على أبواب الامتحانات، ثانوية عامة وجامعات. مسيرة طويلة مرهقة منذ وضعوا أقدامهم في التمهيدي، وحتى التخرج بشهادة البكالوريوس أو الدكتوراة.
تلك الشهادة مهما علت لن تغير حياتهم العملية، ما لم تتدخل عوامل أخرى مثل الصدفة والظروف المواتية والواسطة والنافذين.
على العكس ستمتلئ بهم المقاهي التي هجرها المتقاعدون إلى جلسات هادئة في بيوتهم، وتركوها لشباب تقاعد قبل أن يدخل سوق العمل!
كريم بنزيما، في سن تقاعد لاعبي الكرة، 35 سنة، وقع عقدا خرافيا لن يصل إليه في عز نجوميته وعطاء شبابه.
200 مليون يورو سنويا، أي أنه لن تمر ثانية واحدة، دون أن يتقاضى عنها مبلغا من المال، حتى الوقت الذي يقضيه في المرحاض!
من الطبيعي القول إنه نجم موهوب، وليس معقولا أن يمتلك كل ابن موهبته الفذة، ولا حتى موهبة سلف بنزيما في الرقم (9) داخل فريق “الاتحاد” النجم المغربي عبدالرزاق حمد لله.
لكننا أمام لوغاريتمات رقمية محيرة.
هذا المبلغ الخيالي لو انفق لتطوير التعليم الطبي، وهو أرفع أنواع التعليم وأكثره أهمية لأنه يتعلق بحياة الإنسان.. كم مقدار مساهمته في اقتصاد الدولة وجودة حياتها.
مجتمعاتنا تعاني تخلفا في المجال الطبي. خريجوه لم تتوفر لهم “كورسات” عملية تؤهلهم لمهنتهم الصعبة. وعقب تخرجهم يعينون في مشافي حكومية، راتبها في أحسن الأحوال لا يتجاوز 100 دولار شهريا!
التقارير قسمت عقد بنزيما على السنة، فوجدت أنه سيتقاضى 800 ريال سعودي في الدقيقة و33 مليونا في الشهر و88 مليونا في الأسبوع ومليونا و200 ألف أسبوعيا.
أرقام خيالية لا يحلم بكسر منها أعلم علماء الطب والطبيعة.
ليس بنزيما وحده. سبقه رونالدو إلى السعودية، وكان ميسي سيأتي برقم خرافي، لولا أن زوجته رفضت الحياة في السعودية.
اقتصاديات كرة القدم مذهلة، لكن ذهولها في العالم الأول، لا يتجاوز الترفيه والمتعة، ولا ترقى لرؤية اقتصادية للتحول إلى اقتصاد غير ريعي.
عندهم آلاف المصانع والعلماء والعلاج الطبي المتقدم. تصدر لنا كل ما نركبه في أسفارنا ونزهاتنا ما عدا البغال والحمير والجمال. نأخذ منها الدواء والغذاء، ونجلب الخبراء برواتب باهظة.
الكرة عندهم ساعة ونصف من المتعة والتنفس، يتابعها جمهورها، الذي ما إن تنتهي يذهب لأعماله وحال سبيله.
عندنا نعتقد أنها تبني اقتصادا متحولا متطورا، لا يعتمد فقط على النفط، وهو اعتقاد يمتد إلى الترفيه، كالغناء والتمثيل، وأهلها أبناء عمومة نجوم الكرة في “تقاضي” الأموال الضخمة.
إنه اقتصاد واهم ومسرف واستهلاكي. الأموال لا تستثمر فيه، إنما تلقى في غياهب الجب، يلتقطها النجوم المسنون في كرة القدم، وأشباه حمو بيكا وأحمد سعد، ويتركون ذلك الاقتصاد كأنه لم يغن بالأمس أو يرى مالا!
ما سيتقاضاه بنزيما في ثلاث سنوات، كفيل ببناء عشرات المصانع أو استصلاح وزراعة آلاف أفدنة الرمال، أو بناء عشرات الأكاديميات العلمية المتقدمة التي يسافر لها الأبناء إلى الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وبقية دول الطوق الأول.
دول منطقتنا وهبها الله الثروة ونزع منها العقل، وتلك مصيبة عظيمة. ثروة تفتقد العقل، مثل قطار سريع ينهش طريقه بدون سائق.
لا أتمنى أن يحلم الآباء والأمهات لأبنائهم وبناتهم بحظ بنزيما.
أتمنى ألا يقيسوا قياس منطقتهم الموحل في الرؤى الاقتصادية الخاطئة، فلا دول تنهض اقتصاديا بدون عمل جاد ومصانع ومزارع منتجة.
كرة القدم ما هي إلا ساعة ونصف من الاسترخاء وسط يوم شاق.
بنزيما مقابل ركل الكرة يتقاضى 200 مليون يورو سنويا، بينما كثيرون.. بسبب ضيق ذات اليد، لم يقبضوا رواتبهم منذ عدة شهور أو مستحقات نهاية خدمة سنوات طوال.
نتكلم عن دولة نفطية بالغة الثراء.. فما بال شقيقاتها التي تنفق الملايين على لاعبي الكرة، وتنام شعوبها بدون عشاء ولا يجد مرضاها ثمن الدواء!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى