آراء وأعمدة

الكاتب والإعلام العربي الكبير يكتب لكم دفتر فراج اسماعيل

متعة الأكل

في شبابي.. كانت لعقلي ومعدتي متعتان لا تنفصلان كأنهما توءم. القراءة والأكل.
تحت ظل شجرة السنطة شرق الجنينة في قريتي، وهي مساحة مسورة ببناء طيني مزروعة بأشجار الفاكهة وراء بيتنا وبجانبه، كنت استلقي بالساعات لأقرأ كتابا جديدا أو قديما.
وفي سن مبكرة جدا كنت اقرأ عن ماركس ولينين وستالين فظن أحد الكبار أنني شيوعي أو على مقربة من الشيوعية، فنصحني بأن أتسلح أولا بالكتب الدينية التي تحمي عقلي وفكري.
كان هذا الكبير رحمه الله، وهو شيخ أزهري حصل على العالمية من الأزهر يخشى انجرافي إلى الإلحاد في ظل عدم وجود ثقافة دينية موازية تقاوم نزوعي المبكر لمطالعة ثقافات غريبة أو الاستغراب الثقافي.
وفي زيارة أخرى وجدني أحمل رواية “آنا كارينينا” للكاتب الروسي الشهير ليو تولستوي، فاندهش من تركيزي على كل ما له علاقة بالثقافة الروسية وربما زادت شكوكه.. رغم أن تولستوي آمن بأهمية القيم الدينية كحائط صد، وفي أحداث الرواية شيء من ذلك.
حقيقة ذلك الزمان من عمري أنني كنت اقرأ ما يصل إلي يدي في مكان معزول لا يبعد سوى كيلو مترات قليلة عن الجبل، وأنني قرأت (كوكتيل) من الكتب استفدت منها لاحقا في عملي الصحفي وكتاباتي السياسية، فعندما أكتب خبرا أبتعد عن كل ما يؤثر على المتلقي ويخلق عنده انطباعا، وهكذا استفدت من رواية آنا كارينينا، فتولستوي ملأها بالشخصيات ولم يحكم على أي شخصية بالخير أو الشر. ترك الحكم للقارئ، وأتاح مساحة واسعة لإثارة النقاش والجدل، وهو ما يقابل الخاصية التفاعلية للسوشيال ميديا في عصرنا.
ولا تزال روايته حتى اليوم تثير النقاش والجدل، لدرجة اعتبروا حديثا أنها تكاد ترسم صورة تمرد زعيم فاجنر والعلاقات النسائية داخل هذا التمرد.
أي خبر يحمل رأيا هو خبر ملوث، لكن هذا لا يعني إنكار أنه يتأثر بشكل أو بآخر بميول كاتبه. ومن ثم كنت أحاول جاهدا الابتعاد عن قرين السوء وهو تحكم الانطباعات المسبقة في سردي أو تحليلي، واعتبرت علامات التعجب والاستفهام جزءا من شخصية ذلك القرين فلم استعملها رغم أهميتها والحاجة إليها في كل اللغات.
كنت أقول إن وضع علامة التعجب وراء عنوان الخبر أو تصريح لشخص معين بمثابة رأي من الكاتب، وهو عينه الأسلوب الذي اعتمده تولستوي في سرد أحداث وشخصيات “آنا كارينينا”.
ومتعة الأكل تأتي ثانيا لمتعة القراءة. إذا كانت الأولى قد أفادتني فإن الثانية ربما تكون وراء إصابتي بالسكر والضغط والكوليسترول والنقرس وضيق الشرايين، وهي أمراض مزمنة ستظل رفيقة الدرب إلى رحيلي عن الدنيا.
أحب الضأن واشتهي لحومه البيضاء، وكثيرا ما تسابقت مع صديقي وبلدياتي المهندس خطاب عبدالرسول في التهام الفخد أو الكتف المشوي في مطعم بشارع التحلية في جدة.
وذات مرة انتهينا من سباقنا إلى ألم يقطع مصارين بطني، فحملني إلى مستشفى جدة الوطني في شارع المدينة حيث احتجزت فيه عدة أيام.
انتقل صديقي إلى رحمة الله منذ سنوات، وكان قد أصيب مثلي بالسكر والضغط.
ذهبت إلى المغرب في مهمة صحفية، وخلال الأسبوع الذي قضيته في أحد فنادق الرباط، وقعت على كنز في مطعمه جعلني ارتاده عدة مرات في اليوم الواحد، وهو الطاجين المغربي باللحم الأحمر. لاحظوا أنني لا أطلب غيره من جمال طعمه، وقد عثرت على صحفي في الفندق نفسه قادم من الكويت ويعمل في جريدة السياسة الكويتية، له نفس الاهتمام بأكل الطاجين، فكنت أتصل به أو يتصل بي لننزل من غرفتينا إلى المطعم.
وفي بغداد تحولت إلى الإفطار على “التكة” .. وكم كان التحول كبيرا من التعود على إفطار الفول والطعمية في مطعم التابعي الدمياطي القريب من مبنى جريدة الجمهورية القديم في عاصمة أم الدنيا إلى الإفطار باللحم مع مشروب الرايب في عاصمة الرشيد.
في ألما آنا العاصمة القديمة لأوزبكستان استقبلني أصدقائي بعشاء قلت على إثره بصوت عادل إمام “هو يوم باين من أوله” وكان معي الداعية الإسلامي المصري في هيئة الإغاثة السعودية الشيخ الدكتور رضا طعيمة، كان وقتها يتعاون معنا في جريدة “المسلمون” ونعرفه باسم رضا مراد، له صوت ملائكي رائق وجميل إذا قرأ القرآن الكريم أو أدعية دينية، وكانت له ميول إلى الدراما التليفزيونية، وقد شاهدته فيما بعد في دور شيخ داخل مسجد، لا أتذكر اسم المسلسل الرمضاني، ثم اشتهر جدا عندما كان بمثابة المتحدث للصحفيين عن تطورات مرض الممثلة السابقة المعتزلة السيدة سهير البابلي رحمها الله، فهو زوج ابنتها.
العشاء كان عبارة عن فسيخ وملوحة، لم أنم الليلة بعده من تأثير هجمات الملح في جسمي وعسر الهضم.
العشاء كان على يبدو مشهيات لغداء اليوم التالي في منزل سيدة أوزبكية من خيرة القوم وبحضور مفتي أوزبكستان.
كانت المائدة يعلوها رأس كبش كدلالة على أنهم أراقوا الدماء على شرفنا. هنا قلت للشيخ رضا: هذا هو صديقي الخروف.. يا مرحبا بالضأن.
عيني وقعت على نوع آخر من أطباق اللحم، فلمعت فيها حاسة التذوق. شجعني عليها الشيخ رضا وهو يقول إنه لحم ماعز. كان يدري أنه لحم حصان وأخفى ذلك. أكلت منه حتى أنساني الكبش وأبا الكبش.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى