الكاتب والإعلامي الكبير يكتب لكم “دفتر فراج إسماعيل”
والدي والأستاذ والطين
في مرحلة متقدمة من دراستي الإبتدائية كتب الأستاذ على ورقة إجابتي منتشيا بحصولي على الدرجة النهائية “ممتاز وأتمنى لك مستقبلا زي -مثل- الطين”.
استفزت الملاحظة والدي بشدة، فذهب إلى المدرسة سريعا، وجمع الناظر والمدرسين، وسمع أمامهم دفوع المدرس الذي برر ما كتبه بأنه لم يجد ما يعبر فيه عن سعادته الكبيرة بتفوقي، فوجد أن “مستقبل الطين” هو الأنسب، ويعني أن أصبح من أصحاب الأطيان، أي ملاك الأراضي الزراعية، وكانت لا تزال فيهم سطوة باقية من زمن العهد الملكي، حين كانت ملكية الأطيان تؤهل صاحبها للقب الباشا.
حكيت هذه القصة لصحفي أمريكي سألني عن أسباب وصولنا سريعا كعرب إلى التطرف في سياساتنا وأحكامنا وقراراتنا وأفعالنا.
لدقائق لم يتوقف ضحك الصحفي، ولم يمرر الموقف الطريف دون أن يتأكد ما إذا كانت أمنية المدرس تحققت أم لا.
كتبت نيللي لحود الباحثة في المراكز الأمنية الأمريكية كتابا قبل عدة سنوات بعنوان “أوراق بن لادن” سجل واحدا من أعلى المبيعات في الغرب، لأنه غاص في آلاف الملفات الرقمية التي كشفتها وكالة المخابرات المركزية بعد أن حملتها معها عبر أقراص الكمبيوتر من المجمع السكني في مدينة أبوت آباد الباكستانية الذي شهد مقتل أسامة بن لادن بواسطة قوة خاصة أمريكية، في عملية استغرقت 30 دقيقة، و18 دقيقة إضافية لجمع الملفات الرقمية الكثيرة التي خصص لها بن لادن الطابق الثاني من المجمع.
سئلت حينها.. ما رأيك في الكتاب.. فقلت إنه تحديد دقيق “لمستقبل الطين” الذي تمناه أستاذي يوما ما.
كان أسامة بن لادن أكثر من كونه مالك أطيان. ورث نسبة من ثروة طائلة عن والده البناء اليمني الأصل الفقير في بداياته “محمد بن لادن”.
هاجر إلى السعودية بين الحربين العالميتين، وأفادته الطفرة النفطية في الصعود السريع، من مجرد عامل بناء، في شركة أرامكو يستمد صنعته من الطين، إلى توسعة الحرمين وتشييد شبكة الطرق الهائلة في المملكة وحتى إلى بناء القواعد الأمريكية التي سمحت بها الرياض فيما بعد.. كل ذلك من صنعة الطين أيضا.
تلك الثروة الهائلة جعلت من أحد أبنائه أسامة بن لادن، أبرز صانع حروب كبرى في أواخر القرن العشرين وأوائل القرن الواحد والعشرين حتى مقتله في 2011.
كل ذلك رغم أن نسبته من ثروة والده لم تتجاوز 2% فهو واحد من 54 ابنا وبنتا.
معادلاتنا عكسية في العالم الثالث وأكثر تطرفا في العكسية في العالم العربي.
إذا هبطت علينا ثروة ربانية خارقة مثل النفط، لا تتوقع أننا بنينا بها مصانع واستصلحنا الصحراء وزرعناها، بل حولناها إلى طين لبناء بروج شاهقة وناطحات سحاب ومراكز ترفيهية وجسور، ومساجد وكنائس من الكثرة والاتساع غير المبرر مع الأعداد القليلة جدا التي ترتادها للعبادة.
فإذا حلت بالعالم الأول أزمات اقتصادية أو حروب كحرب روسيا وأوكرانيا، نضبت مخازننا من القمح وسائر الحبوب، وأصبح العثور على كيلو أرز في المتاجر، مثل أمنية العثور على لبن العصفور!
فيما عدا ذلك فإن الطين لم يوفر لنا كيلو لحم في المتناول، أو وجبة دجاج كانت منذ وقت قريب طعام الفقير الذي لا يجد اللحم، والبيض أصبح سلعة لا يستطيعها إلا الأثرياء أو الذين لديهم دخل محترم.
وحتى الدخل المحترم لا تضمنه كذلك بعد ساعة أو بعد يوم واحد في ظل ثورة جنونية من ارتفاع الأسعار.
لو أعادني الزمن إلى ذلك الصحفي الأمريكي الذي ضحك من موقف الأستاذ الطريف معي، لقلت له: هل رأيت أن أبي كان جادا في غضبته، لأن امتلاك الثروات لا يعني بالضرورة التفوق والجلوس مع الكبار والمؤثرين.
سأقول له مثلا إن أحدث تقرير عن أغنى دول أفريقية من حيث الثراء الفردي، أي المليونيرات والمليارديرات هي بالترتيب: جنوب أفريقيا ومصر والمغرب ونيجيريا. قارن ذلك مع حالة جيوب شعوبها وقدرتهم على الحياة اليومية.
المقارنة ستصب في صالح المستقبل البائس “زي الطين” على حد أمنية أستاذي.
لم أكمل للصحفي الأمريكي بقية الموقف الطريف الذي حدث في المدرسة الابتدائية بقرية نجع البركة التابعة وقتها لمركز الأقصر جنوب مصر، بأن والدي لم يتقبل مبررات الأستاذ وكاد يقوم بعبطه لولا تدخل حضرة الناظر وتوسله!
رحم الله الجميع…