آراء وأعمدة

الكاتب والإعلامي العربي الكبير يكتب لكم دفتر فراج إسماعيل

العشاء الأخير

قبل سنوات مات الدكتور صادق أحمد زعيم الأقلية المسلمة في تراقيا الغربية باليونان في حادث سيارة.
كان طبيبا وسياسيا بارزا مدافعا عن حقوق الأقلية التركية في تراقيا التي خضعت للتقسيم عقب سقوط الدولة العثمانية، وقسمت بين تركيا التي منحت تراقيا الشرقية، وبلغاريا التي أخذت الجزء الشمالي منها، وتراقيا الغربية لليونان.
كما حصل لاحقا عام 1947 مع تقسيم شبه القارة الهندية إلى الهند وباكستان.. سبقه خلط مماثل جغرافي وديموغرافي، وهجرات قسرية لأتراك ضمت مناطقهم لليونان، وكذا ليونانيين أو أرثوذكس أصبحت مناطقهم تركية خالصة.
أقرت معاهدة لوزان 1923 هذا التقسيم دون ضمان حقوق ما سيترتب عليه من أقليات، ولكنها استثنت تراقيا من ذلك التهجير أو الترانسفير، فاستمر نحو 120 ألف مسلما من ذوي الأصول التركية في تراقيا الغربية.
من وقتها ترفض اليونان تسميتهم بأقلية تركية، وتعتبرهم مجرد أقلية دينية.. وتتركز خلافاتهم التاريخية مع اسطنبول حول تلك التسمية، وهو الخلاف الذي تكرر في مشكلة قبرص، وانتهى بغزو تركي ونزع الجزء الشمالي الذي يعيش فيه القبارصة الأتراك.
عندما قرأت خبر مصرعه في حادث سيارة، تذكرت عزومته لي على العشاء في أحد مطاعم مدينة قومتيني عاصمة تراقيا الغربية.
نصحني ضاحكا بأن أتعشى جيدا فربما يكون العشاء الأخير”. كنت منهمكا في التهام قطعة من اللحم المشوي اللذيذ الذي طلب منهم إعداده على الطريقة الإسكندرانية.
في اليونان يحبون الإسكندرية جدا.. وبعضهم من كبار السن يكرمون من أتى منها أو مر عليها، فلا زال يدغدغ عواطفهم تاريخ إقامة جالية يونانية كبيرة في المدينة الساحلية المصرية التي أسسها جدهم الإسكندر الأكبر.
لم ابتلع ما وضعته في فمي بسهولة واستغربت متسائلا برعب: “عشائي الأخير”..!
أشار إلى مجموعة تراقبنا ولا تكف عن متابعتنا.. ثم أكمل: لا تترك ملفات موضوعاتك أو الصور التي تلتقطها في غرفتك حتى لا يأخذونها لأنهم قد يذهبون ويفتشون أغراضك.. فأنت زرتني في مكتبي وها أنت تشاركني الطعام.. فلابد أنك تحت المراقبة من أول لقاء بيننا.
تذكرت مساء اليوم الذي حاورته في مكتبه، فعندما خرجت من الفندق مساء للتمشي والفرجة على المحلات التجارية كعادتي في كل سفرياتي، لمحت أشخاصا يتابعونني أينما ذهبت، فإذا دخلت محلا أسأل عن سلعة معروضة، انتظروني إلى أن أخرج.
نسيت من الخوف طريق العودة إلى الفندق، فذهبت إليهم وبراءة الأطفال في عيني لأسألهم عنه، فإذا بهم يسيرون بي إلى الفندق دون أن يعرفوا مني اسمه!
كنت قد وصلت إلى مدينة قومتيني عاصمة تراقيا الغربية، في العاشرة مساء. جئت بسيارة من اسطنبول يقودها سائق يوناني.
حجزت مسبقا غرفة في فندق “أوليمبز” وبمجرد دخولي إليها، سارعت إلى الإتصال بالدكتور صادق أحمد في بيته.
عرفني على الفور، وأخبرني أن شخصا سيمر في التاسعة صباحا ليأخذني إلى مكتبه.
تراقيا الغربية بمثابة برميل بارود، فهي مركز البلقان الذي يجب أن يكون بعيدا عن اللهب حتى لا يتسبب في حرب بلقانية كبرى، خصماها الرئيسان تركيا واليونان. من هنا فإن السياسة الأوروبية ظلت طويلا، تنظر إليها بحساسية بالغة.
هذه الحساسية جعلت ضابطة الجوازات على الحدود مع تركيا تعاملني بكل قسوة. استغرقت تسألني ساعة كاملة.
عندما أخذ مني السائق جواز سفري ليقدمه لمكتب الجوازات، عاد بعد دقائق قائلا “إنهم يطلبونك”. وقفت أمام رجل ضخم الجثة صارم الوجه، فأمرني بالدخول إلى مكتب آخر، فإذا بي أمام إمرأة أكثر صرامة وغلظة.
كانت حادة قاسية. تكرر السؤال بأكثر من طريقة، ثم انضم إليها شخص آخر بنفس صفاتها وطريقتها في الأسئلة. وأخيرا وضعت ختم الدخول على الجواز.
شوارع مدينة قومتيني ليست واسعة لكنها مليئة بالمحلات التجارية والمطاعم الفاخرة التي يشتهر بها اليونانيون.
الحمد لله لم يكن عشائي الأخير.. أنهيت مهمتي الصحفية بعد عدة أيام، لكني فوجئت بأنني لا أستطيع العودة إلى الحدود التركية كما جئت، ولكن عبر حدود بلغاريا. لم أعرف السبب حتى وقتنا هذا.
عندما زار وزير الخارجية التركي اليونان بدأ بزيارة تراقيا الغربية وفور وصوله زار ضريح صادق أحمد، وذلك أغضب حكومة أثينا.
لا أعرف بالتأكيد ظروف حادث السيارة الذي أودى بحياة د.صادق أحمد.. لكني ربطته بعد سنوات وأنا أشاهد خبره على شاشة إحدى القنوات، بمزحته معي على مائدة العشاء في المطعم اليوناني الفاخر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى