الكاتب والإعلامي العربي الكبير يكتب لكم دفتر فراج إسماعيل
الرضيعة آية وحبلها السري
لم نمر عربيا وإسلاميا بأفظع من كارثة الزلزال الذي ضرب تركيا وسوريا يوم الاثنين الماضي.
عليك أن تتخيل كأن عشرات القنابل النووية ألقيت خلال دقيقة واحدة، ثم تكرر ذلك في الهزة الثانية العنيفة، وأن مركز الزلزال، وهو ولاية كهرمان ماراش، أصبح ومناطق جنوب شرق تركيا وشمال غرب سوريا أثرا بعد عين.
وأنا أكتب هذا المقال تجاوز عدد القتلى 28 ألفا. والمصابون أكثر من 85 ألفا، فيما أصبح ما يزيد عن 28 مليونا وفق التقديرات المتواضعة بلا مساكن تأويهم.
دقيقة واحدة أنتجت مئات القصص الإنسانية الموجعة التي تستوقف المراسلين وتشد الأقلام الصحفية.
آثار هذه القصص لن تنتهي قريبا، فقد تمتد طيلة أعمار من كتب لهم الله الحياة تحت الأنقاض ما يصل إلى خمسة أو ستة أيام بلا طعام أو ماء أو قدرة على الحركة.
عندما ذهبت لتغطية حرب البوسنة والهرسك أوائل تسعينات القرن الماضي، وضعت خطة عملي بالتركيز على الموضوعات الإنسانية خصوصا أنني أكتب لصحيفة المسلمون الأسبوعية في زمن لم يخترع فيه الموبايل والانترنت والقنوات الفضائية الخبرية.
ليس ميسورا أن أكتب أو أنشر عشرات الصور التي التقطتها إلا عقب عودتي، فقد يطول ذلك أسبوعا أو أسبوعين أو أكثر.
تبقى القصة الإنسانية التي أكون شاهد عيان عليها، هي الموضوع الخالد طويل العمر.
كانت البداية مؤلمة جدا لكنها كنز ثمين للصحفي أو المراسل.
أخذنا قائد بوسني إلى مسجد شهد مذبحة صربية مروعة، وتناثرت داخله جثث المصلين المذبوحين.
التقطت كثيرا من الصور، وما كدت أرفع رأسي حتى رأيت رأس طفل رضيع على جذع شجرة، والرضاعة لا تزال في فمه.
بقدر ما أبكتني هذه الصورة لرضيع قطعوا رأسه، بقدر ما شعرت أنني وقعت على كنز صحفي ثمين.
صورة تساوي مئات المقالات والتحقيقات.
عندما عدنا إلى مدينة آمنة نوعا ما، وقمت بتحميض الفيلم ظللت أطل في تلك الصورة تحديدا فرغم أني لست محترفا في التصوير إلا أن زواياها وجودتها كانت بعون الله بدرجة من الإبهار لم أصدقها شخصيا.
الصورة شدت الصحفي الكفء الأستاذ محمد بركات مدير تحرير المسلمون الذي اشتهر لاحقا ببرنامجه “مراجعات” في قناة اقرأ، وطلب من زميلنا المخرج الماهر والموهوب الأستاذ ثروت محمد الذي صار فيما بعد على رأس مخرجي “المصري اليوم” أن يضعها داخل برواز أعلى الصفحة الأولى.
العدد يوزع بدءا من صباح الأربعاء.. ذلك الوقت كان كافيا لتصبح عنوان خطب منابر الجمعة في السعودية، وطلبتها وكالات أنباء عالمية من الدكتور عبدالقادر طاش رئيس التحرير عليه رحمة الله.
أعادت ذاكرتي صورة هذا الرضيع، وأنا أتابع التقدم التكنولوجي المذهل ينقل في التو واللحظة إلى العالم كله معجزة الرضيعة التي ولدت تحت أنقاض الزلزال في بلدة جنديرس السورية، بعد أن ظلت ساعات طويلة تحت الركام يربطها الحبل السري بأمها “عفراء” الميتة بجانبها ومعها الزوج عبدالله والد الرضيعة وأطفالهما الآخرون وقد ماتوا جميعا.
الرضيعة وحدها عاشت وامتدت بها الحياة، رغم أنها تحتاج إلى اللبن والدفء والعناية. لكن عناية الله فوق كل شيء.
بأداة بدائية هي الموس، قطع رجال الإنقاذ الحبل السري للرضيعة التي سميت لاحقا “آية”وحملت إلى المستشفى في حالة سيئة، تعاني سجحات في كل جسدها، وأثارا بالغة في عمودها الفقري.
إرادة الله التي أبقتها حية كانت قادرة على أن تمنحها التعافي سريعا، ونقلها مدير المستشفى إلى بيته، حيث كانت زوجته في انتظارها لتلقمها اللبن من صدرها، كأنها أم بديلة أرسلها الله من أجلها.
ما كادت الفضائيات ومواقع التواصل تبث فيديو إخراج الرضيعة، حتى أصبحت كارثة الزلزال قصة أخرى مليئة بكل العواطف الإنسانية التي لا تفرق بين إنسان وإنسان لدرجة أن أمهات في أوكرانيا فقدن أبناءهن في الحرب، انتبهن إلى قصتها وتابعنها بقلب الأم الحنون الخائفة المترقبة وتمنين أن يقمن بتربيتها. وهكذا عشرات أو مئات الطلبات التي انهالت تطلب تبني الرضيعة مثل فنانة كويتية معروفة ومذيعة تليفزيون مغربية مرموقة.
القصص الإنسانية وسط الكوارث مادة دسمة لينة للصحفي والإعلامي الخبير. لكن البعض ينسى ذلك ويستغرق في الأرقام والتفسيرات والمقابلات والاستنتاجات فيكتب أو يذيع كأنه يؤذن في مالطا!