آراء وأعمدة

الكاتب والإعلامي العربي الكبير يكتب لكم دفتر فراج إسماعيل

حكايتي مع السنيورة “شيرين”

كنت تجاوزت مرحلة الدراسة الإبتدائية عندما جاءني ساعي البريد النحيف الذي تخيلت أن الأرض تأكل من جسمه بسبب عشرات الكيلو مترات التي يمشيها على قدميه يوميا.
حمل لي خطابا مسجلا من الخارج. قال لوالدي الذي كان يشاهد المنظر مستغربا: إنها المرة الأولى التي يأتيكم خطاب من “بلاد برة”. لم أسمع أن لكم قريبا هناك!
لم ينطق أبي، لكني رأيت وجهه يتغير كأن أمراً جللاً في داخل المظروف الذي حمل أكثر من خاتم بريد!
من ذا الذي في بلاد برة الذي يرسل لطفل في الثانية عشرة ربيعا خطابا مسجلاً!؟!.. وإلى أين؟. “الحرجة” التي تسكن حضن الجبل الغربي والتي يفصلها عن مدينة الأقصر في أقصى صعيد مصر، طريق غير ممهد لم يعرف الأسفلت من قبل، ويقطعه يوميا اتوبيس قديم للنقل العام مرتين يوميا. “أول ميعاد” في السابعة صباحا، و”آخر ميعاد” في الثالثة عصرا. من لا يلحق بأي منهما في الصباح أو العصر، في الذهاب أو العودة، له الله.
اشتهر الاتوبيس باسم “اتوببس الجبلاوي” نسبة إلى سائقه خفيف الدم الذي لا يكف عن ممازحة الركاب ويكاد يعرفهم بالاسم، ويبدأ رحلته من مدينة قنا وتنتهي غرب نيل الأقصر عند “معدية وهبان” التي لها مواعيد أيضا، وبها نعبر إلى المدينة التي كنت أراها عالما آخر ودنيا مغايرة.
رحلة سفر تكلف كلها قرشين صاغ. ولأن هذا المقال يخص جريدة على المحيط الأطلسي خارج مصر بمسافة تستغرق ساعات بالطائرات الحديثة، فإن “القرش الصاغ” واحد على مائة من “الجنيه” الذي يساوي الدولار الواحد، 42 جنيها منه اليوم في السوق السوداء أو أقل قليلاً، ونحو 31 جنيها في البنوك.
“الجبلاوي” ليس اسم السائق في البطاقة، وإنما لقبوه به نسبة لقريته “جبلاو” غرب قنا.
وحتى المحطة التي يقف فيها، لم تكن في “الحرجة”. تبعد عنا نحو 5 كيلو مترات نقطعها على ظهر حمار وسط الزراعات إلى قريتنا الأصلية ومسقط رأسي “أسمنت”.
ولكي ألحق بأول ميعاد، لابد أن أخرج قبل السادسة صباحا وورائي “العجوز” على ظهر الحمار لكي يعود به إلى البيت،
وهو في الحقيقة ليس عجوزا. مجرد لقب عرفناه به، لكنه في مثل سني.
والغريب أننا كنا نترك الحمار يقودنا إلى وجهتنا عندما تختفي معالم الطريق بين الزراعات في أوان ريها بالماء، وينجح بذكاء!
رحلة لابد منها لكي انتظم في مدرسة الأقباط الإعدادية التي التحقت بها، واختاروها لي لتفوقي في الشهادة الابتدائية.
صحيح أنهم استأجروا لي غرفة في الأقصر، رفقة تلاميذ آخرين من بلدتي، لكني كنت استفيد من عطلة المدرسة يوم الأحد، فأعود إلى قريتي مرتين في الأسبوع، الخميس وأسافر صباح السبت، ثم أعود، وأسافر صباح الاثنين.
كان برنامج “العم حمدان” في دار الإذاعة الإسرائيلية قد تحدث في إطار الدعاية المضادة لمصر والحرب النفسية عن حالتي البائسة والبؤس الذي نعيش فيه، وكان حديثه دائما بلهجة صعيدية تشبه لهجة القرى التي نعيش فيها.
التقط “حمدان” قصتي من مصدرين. الأول قصة تفوقي التي كتبها الأستاذ فايز بقطر نائب رئيس تحرير جريدة الأخبار فيما بعد، وعنونها بعنوان مثير “الطفل النابغة يرفض مكافأة المحافظ ويطلب أن تدخل المياه البركة”!
وظهرت صورتي في القصة بالجلباب الصعيدي.
كانت المكافأة نظير حصولي على المركز الأول في الشهادة الابتدائية على محافظة قنا من حدود سوهاج إلى حدود أسوان.
قيمتها كانت عشرة جنيهات قدمها لي المحافظ الفريق محمد عبدالسلام توفيق، وعشرة جنيهات أخرى من الدكتور صلاح اسماعيل أمين عام الاتحاد الاشتراكي العربي بالمحافظة.
الأستاذ بقطر كان يقصد طلبي التنازل عن المكافأة مقابل توصيل المياه النقية لقرية نجع البركة المجاورة التي حصلت من مدرستها المتهالكة على الشهادة الابتدائية، وكانت توشك أن تنهار علينا، بسبب دودة القرضةء النمل الأبيضء التي تأكل في جدرانها المبنية من الطين أو الطوب اللبن.
الغريب أن أخي أخبرني قبل أسابيع أنها لم تسقط حتى اليوم ولا زالت في مكانها رغم أنها مهجورة، وبنيت بالقرب منها مدرستان حديثتان بالخرسانة المسلحة، ووحدتان صحيتان وصيدليات. إحدى المدرستين الحديثتين صدر لها قرار إزالة حتى لا تنهار على التلاميذ لتصدعات فيها. سبحان الله.
المصدر الثاني للعم حمدان كان برنامج “فنجان شاي” للإذاعية الشهيرة المرحومة سامية صادق، وكان ضيفها المرحوم الدكتور علي عبدالرازق وزير التربية والتعليم، وفيه تحدث عن قصتي مع المحافظ، وتنبأ بأني سأعمل ثورة في المستقبل. يقصد ثورة علمية أو مجتمعية.
في حفل أوائل الجمهورية بالقاهرة عندما جاء دوري أخبرت الوزير بأنني أنا الذي تكلم عنه للأستاذة سامية صادق، فاحتضنني طويلا أمام الحاضرين وقدمني إليهم كأنني مرشح لجائزة نوبل.
العم حمدان وجد من ذلك، قصة مناسبة للتشهير بحال مصر الذي يعطل المراكب السايرة ويفشل النوابغ، وكان يبدأ برنامجه بمقدمة ثابتة “إخواني ولد مصر الطيبين”.
هل خشي والدي أن يكون الخطاب من “العم حمدان”. هو الوحيد من بلاد برة الذي ذكر اسمي؟!
كان الخطاب المسجل قادما من قطر، من مجلة “الدوحة” التي توقفت عن الصدور قبل أسابيع، وتلقيت الخبر بصدمة موت عزيز.
لم يغادر البوسطجي إلا بعد فتح الخطاب وفيه شيك بعشرة جنيهات مكافأة على مقال قصير نشرته المجلة لي.
كان أول مبلغ يدخل جيبي من الكتابة.
وسيلتي الوحيدة للاتصال بالعالم الخارجي من حضن الجبل الذي أعيش تحته، كان الراديو، وقد أهدانيه أخي “ياسين” عليه رحمة الله، وكان يعمل في مدينة إسنا في مد خطوط الكهرباء القادمة من السد العالي.
اشتريت بمكافأة مجلة الدوحة خروفا صغيرا لأربيه وأكسب منه، لكني بعته بعد أسبوعين فقط لأن الراديو تعطل ولم يفلح إصلاحه.
اشتريت راديو بموجتين متوسطة وقصيرة. لا يمكننا في النهار إلا التقاط إذاعة القاهرة فقط، ولكن يمكن بالموجة القصيرة التقاط بعض المحطات الأجنبية.
كنت مغرما بإذاعة لندن ومونت كارلو وصوت أمريكا ولا أصدق إلا أخبارها.
لكن الراديو الجديد لم يكن يأتيني إلا بإذاعة “قصر شيرين” على الموجة القصيرة.
كلما أبحث وأجد أغنية استبشر خيرا، فإذا في الفاصل أسمع “هنا قصر شيرين” بإرسالها الصافي دون تشويش.
سألت أبي: هل يوجد قريبا منا أحد قصور الباشوات السابقين. وأسمعته “إذاعة قصر شيرين”!
فلم أجد عنده إجابة.
استسلمت في النهار لمطاردة “شيرين” من قصرها المرصود. وتخيلت مرة أنها ربما تكون حبيبة عبدالحليم حافظ التي حدثته عنها “قارئة الفنجان” للشاعر العبقري نزار قباني.
في ظل ذلك التخيل قررت التوقف عن البحث عنها مخافة تحقق نبوءة قارئة الفنجان “حبيبة قلبك يا ولدي نائمة في قصر مرصود….. من يدنو من سور حديقتها مفقود”.
نسيت القصة برمتها بعد ذلك إلى أن حكيتها بالصدفة بعد مرور أكثر من 30 سنة للإعلامي الإيراني الأستاذ مسعود الفك وكنا زميلين في قناة العربية في دبي.
ضحك طويلا وكنا على مائدة الغداء في كافتيريا إم بي سي.
“قصر شيرين” مدينة في إيران غالبية سكانها من الأكراد تقع على طريق بغداد طهران.
قلت وأنا أبادله الضحك.. إذن هذه هي “شيرين” التي طاردتني وأخافني قصرها المرصود.. “تطلع في الآخر مجرد مدينة صغيرة”!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى