آراء وأعمدة

الكاتب والإعلامي العربي الكبير يكتب لكم دفتر فراج إسماعيل

العيد في الزنزانة

رمضان الذي ودعاناه كان شهرا استثنائيا بين كل شهور رمضان التي عشتها.
مع الساعات الأولى لأول يوم فيه، تعرضت لحادث سقوط كبير تسبب في تفتت عظام قدمي اليمنى. وفي العاشر منه خضعت لعملية جراحية صعبة لتصحيح القدم وعظامها التي إما تفتت أو غادرت موضعها.
لم يكن هناك اختيار أمامي سوى الدخول مجبرا لا حول لي ولا قوة، إلى زنزانة السرير، الذي لا تربطني به أي ألفة أو مودة، فأنا بطبعي هائما منطلقا في دروب الحياة، مغامرا في الطرق والمسارات المجهولة التي لا أعلم، أضوء في نهايتها أم ظلام.
يعرف حبيس زنزانة السجن، فظاعة أن تكون حريتك مسلوبة، وممنوعا من الشارع والناس والمقهى وكل ما يجده الإنسان في حياته الطبيعية.
هذا كان شعوري بالضبط طيلة شهر كريم. السرير هو زنزانتي والعكاز هو الحارس متجهم الوجه، شديد الصرامة، غليظ المنكبين، متحجر القلب والمشاعر، الذي يصحبني إلى المستشفى للمراجعة، أو حتى إلى بيت الراحة كما يسمى بعض العامة “التواليت” أو دورة المياه تقديرا أو احتراما لقيمتها في منح الراحة للمحتاج إليها.
في حالتي طيلة الشهر، لم تكن أي من تلك المسميات مناسبة. كنت أراها مهمة صعبة واحتياجا مزعجا في ظل ضوابط يجب الإلتزام بها، حتى لا تتضرر قدم جرى تثبيتها بالمسامير، كأنها “كاوتش” سيارة متهالك لا تضمنه نصف متر.
انتهى رمضان دون أن أراه. واستقبلت العيد في زنزانتي السريرية، ولم أتمكن للمرة الأولى منذ سنوات بعيدة من أداء صلاته في المسجد أو إحدي المصليات الواسعة.
واتسعت الأوجاع على الراتق بحرب السودان، وهو بلد أحبه وأحب ناسه.
الوجع الذي أعانيه بسبب تدمير بلد شقيق بأيدي أبنائه، يؤلم أكثر من وجع الجسم ولا تنفع معه مسكنات.
غير ذلك.. كان رمضان وبعده العيد شاقا على الجميع في ظل متطلباتهم المعيشية. الأسعار تتجاوز أي سقف، وقدرة الناس الشرائية آخذة في الانخفاض بلا حدود، والقيمة الفعلية للدخول لا تلبي حد الكفاف.
يقال لهم إنها حرب أوكرانيا، ولولا أن السودان لا تصدر لهم سلعا استراتيجية، لأضافوا حربها إلى ضيق ذات اليد.
بقليل من التمعن والتفكير.. نكتشف أننا ضحايا أنفسنا.
ضحايا غياب التخطيط والفهلوة ومذلة السؤال وغلبة الدَّين.
بأي حال عاد العيد وسيعود دوما، وسنعيد على أنفسنا، بأماني الخير واليمن والبركات.
لكن الأمنية الأغلى أن ننعم بالصحة في أجسادنا والسلام والأمن في مجتمعاتنا.
غير ذلك هين وسيأتي يوما ما.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى