وجبة سريعة اسمها تيك توك!
لطيفة بجو
ليت الزمان يعود يوما …زمن كنا كلما أحسسنا بالضجر، قرأنا كتابا أو تصفحنا مجلة؛
زمن كان الجميع ينتظر بشوق وقت التجمع العائلي والسَّمر كل مساء؛
زمن كان الترفيه عن الأطفال وتربيتهم وبث المبادئ فيهم من مسؤولية الآباء والأمهات؛
زمن كانت الأمهات يهدئن أطفالهن بما كان يسمى حينها “اللهاية”؛ كانت الواحدة منهن تشتري لعبا من قبيل الخشخيشة تصدر صوتا كلما حركها الرضيع. هدفها تشتيت انتباهه عما قد يجعله يبكي. هذا في حال كانت لم تنته بعد من مهامها المنزلية من خبز وطبخ وكنس وغيرهم، وإلا فإنها كانت تحمل صغيرها وتلاعبه وتهزهزه وتحدثه بكلمات غريبة وقاموس كله حب وحنان.
ماذا عن الآن؟ للأسف، تغيرت الأشياء وأصبح الهاتف النقال و”الطابليت” من اللعب المفضلة لدى الجميع لتمضية الوقت، بل وتقصده الأمهات الشابات من أجل تهدئة صغارهن والتفرغ لأشغال أخرى… قد تكون متابعة ما نشر على مواقع التواصل الاجتماعي، أو تيك توك، على الأصح. ترى الواحدة منهن جالسة وقربها صغيرها يمسك هو الآخر بهاتف تتغير على سطحه الألوان والصور، ليصبح مع الوقت مدمنا لتيك توك وعبدا له، حتى قبل أن يبلغ السنتين من عمره.
من المناظر التي أصبحت مألوفة في الشارع العام، منظر أشخاص يضحكون وعيونهم على شاشات هواتفهم، ولو عاد بنا الزمن لحسبناهم حمقى. أما الآن، فهو منظر عادي جدا. إنهم لا يعون أن كل حركاتهم وايماءاتهم وحتى أفكارهم تشترى وتباع بواسطة تيك توك. و إذا أخبرت أحدهم ذلك، رد عليك بكل استخفاف:” أجل، أعلم أن بياناتي عندهم. لا مشكلة! فليس لدي ما أخفيه” أو ” لا يهم، أريد أن أصبح مشهورا.”
وفعلا، فقد أشارت مؤخرا دراسات تعنى بالتسويق عبر الهاتف المحمول، إلى أن تيك توك يعد أكبر تطبيق يشارك بيانات المستخدمين ولا أحد يعرف لمن يتم بيعها. بل يمكنهم ترصد نشاط أي شخص على مواقع أخرى أيضا حتى بعدما يغادر تيك توك. وما يزيد الأمر سوءا هو أن 32.5٪ من مستخدمي تيك توك تتراوح أعمارهم ما بين 10 و 19سنة و 29.5٪ منهم هم بين 20 و 29 عاما.
والحقيقة هي أن تيك توك قد تغلب على كل المنصات الأخرى في جلب المتتبعين إليه والاستحواذ على اهتمامهم. فما نجحت فيه منصات أخرى في سنوات وعقود، استطاع تيك توك تحقيقه في غضون ثلاث سنوات فقط، حيث أصبح يسيطر على كل المجتمعات وجعلها مدمنة فيديوهاته، وحشد أكثر من مليار مستخدم نشط. لقد سلب عقول الكبار قبل الصغار، وهم يحاولون إتقان رقصة جديدة أو تنفيذ مزحة أو غيرها، أو فقط لفت انتباه المشاهدين بأي شئ، حتى ولو كان تافها جدا أو لا أخلاقيا. بل أحيانا تجدهم لا يتوانون عن تصوير أحداث مروعة لأشخاص في وضعيات مأساوية، بدل تقديم المساعدة لهم. همهم الأسمى هو حصد أكبر عدد من المتابعات والتعليقات والإعجاب وتصدر التراند.
لقد أصبحت الجملة الشهيرة “العولمة جعلت العالم كقرية صغيرة” حقيقية أكثر من أي وقت مضى. فمن كان سيعرف بقصة الطفل ريان مثلا، لولا فيديوهات مستخدمي تيك توك؟ ومن كان سيسمع غناء الشاب المغربي وهو يسلي نفسه خلال حفر الآبار ببني ملال؟ فقد شاهده الملايين في وقت قصير جدا، لم يتعد سويعات.
يَعتبر بعض علماء الاجتماع تيك توكنوعا من الكوكايين الرقمي الذي له تأثير على دماغ البشر وخاصة الصحة العقلية للأطفال، ومخدر يجعل مستهلكه يشعر بمتعة ويقنع عقله الباطن بأن يعيد الكَرة ويستمتع مرة أخرى. لقد وفر لسكان العالم كيف يزيدون من إفراز هرمون الدوبامين المسؤول عن الإحساس بالمتعة، وهم منومون تقريبا. لا يطلب منهم بذل أي مجهود، لأنهم يستمتعون بمجرد المشاهدة. فلا عجب إذن أن نجد مؤخرا شابا يشرح أنه لم يعد يستحمل دخول المكتبات والمطالعة، لأن الكتاب في نظره طويل جدا وممل، ولأنه لا يستطيع تخيل الشخصيات، فهو يفضل رؤيتها.
جواب طبيعي جدا، فمن اعتادت معدته الوجبات السريعة لن تتحمل أبدا وجبة دسمة. في اعتقادي، لقد دمر تيك توك من يصطلح عليهم “جيل Z” وسيتبعهم لا محالة “جيل ألفا”؛ فأصبح من السهل تمرير رسائل حول مواضيع كالمثلية والجنس وغيرها من المواضيع التي تبتعد كل البعد عن قيمنا ومعتقداتنا وعاداتنا وتقاليدنا. منذ سنوات، اشتكى كثيرون من تأثير فيديوهات يوتيوب على الشباب واليافعين والأطفال على حد سواء، ولكن تيك توك أخرس الجميع. فعلى الأقل، كان الأولياء يستطيعون حظر بعض القنوات على يوتيوب، وهو ما عجزوا عن فعله مع هذا الوافد الجديد، الذي يشجع الناس على الظهور بشخصيات مختلفة تماما عن حقيقتهم، كما لو كنا في حفلة تنكرية.