فرنسا تختار القطيعة الثقافية مع افريقيا
لطيفة بجو
يبدو أن الهوة تتسع يوما بعد يوم بين فرنسا والدول الإفريقية، فقد ارتكبت خطأ جسيما جديدا عندما أعلنت قبل أيام عن قرارها منع سفر فناني مالي وبوركينا فاسو والنيجر إليها، وإنهاء كل أنشطة التعاون الثقافي مع هذه الدول، قبل أن تتراجع وتقدم استثناء لفائدة كل من حصل على تأشيرة دخول أراضيها قبل صدور القرار.
لقد وقع الخبر كالصاعقة على بعض إخواننا الأفارقة، أمر وصفته بعض نقابات الفنانين الفرنسية “بالخطأ السياسي”، وأثار في نفس الوقت حفيظة الأوساط الفنية الإفريقية المعنية التي اعتبرته سخيفا سياسيا ولا أساس له. يأتي هذا القرار الجديد المتعلق بالفنانين بعدما علقت فرنسا في غشت الماضي سفر عدة طلبة من هذه الدول إليها. وفي محاولة لتعليل القرار، صرحت وزارة الثقافة الفرنسية بأن السبب يكمن في صعوبة منح تأشيرات لمواطني هذه الدول، لأسباب أمنية، خصوصا بعد الانقلابات العسكرية التي شهدتها في الأشهر الأخيرة…
رب عذر أقبح من زلة، كما قيل قديما؛ إذ إن كل متتبع للشأن الإفريقي يستطيع أن يفهم بأن الأمر بعيد كل البعد عن ذلك؛ لأن فرنسا قد أوقفت منذ يوليوز الماضي كل المساعدات التنموية التي كانت تقدمها للنيجر وبوركينا فاسو، بما في ذلك إجراءات دعم الميزانية. وقبلها، في نوفمبر من العام الماضي، اتخذت نفس القرار ضد مالي. لكن هذه هي المرة الأولى التي يتأثر فيها الفنانون بالحرب “الدبلوماسية” التي تشنها فرنسا على مالي وبوركينا فاسو والنيجر. وبالتالي، ستعرف عدة مهرجانات مشاكل وصعوبات وأيضا خسارات مادية، لأن برامجها تتضمن مشاركة فنانين من هذه الدول، كمهرجان الفرانكوفونية نهاية شتنبر الجاري أو أفريكولور خلال شهر دجنبر المقبل.
مع هذا القرار الذي ترك المعنيين بالأمر في حيرة من أمرهم، تتبادر إلى الذهن أسئلة كثيرة؛ كيف يمكن لفرنسا، التي تدعي أنها بلد حقوق الإنسان، والتي لطالما رحبت بالفنانين من كل أنحاء العالم، خصوصا الذين يعانون من صعوبات في بلدانهم، كيف لها الآن أن تلجمهم، وكأنهم المسؤولون عن الانقلابات التي تحدث؟ لماذا تكمم أفواه من يريدون تسليط الضوء على حقيقة الأوضاع في بلدانهم؟ ومنذ متى كان الفنان يشكل تهديدا لأي كان؟ يرى المحللون أنها بتصرفها هذا، فإن فرنسا ستتسبب في قطع كل علاقاتها مع العالم الفرانكفوني بالقارة السمراء… أم أن ما يقع لا يعدو أن يكون النتيجة الحتمية للوضع السائد منذ مدة، والذي كما يبدو قد بدأ يتغير، خصوصا مع تنامي المشاعر والخطاب المُعاديين لفرنسا في الرأي العام الإفريقي؟ وبالتالي فإن القرار الفرنسي لم يكن مفاجأة بالنسبة لكل الفنانين الأفارقة، لأنهم يعلمون بمدى انزعاجها من كون بلدانهم قد قررت الآن التحرر من السلطة التي مارستها عليهم لسنوات، حتى بعد استقلالهم. بل على العكس، إن مغادرة فرنسا لإفريقيا سيسمح لهذه الدول بالتمتع بثرواتها الطبيعية وبخيراتها التي استغلتها لعقود، فهم يشعرون وكأن “فرنسا لم تغادر أوطانهم بعد الاستقلال” كما قال أحد الصحفيين، بل بقيت هناك تستغل مواردهم الكثيرة من غابات شاسعة ومعادن ونفط وكاكاو وقطن وخشب وبن وزيوت…
لن تتحسر الدول الافريقية، ولا سكانها بمختلف جنسياتهم، على الإعانات التي كانوا يحصلون عليها، لأن أغلب الحكومات الإفريقية شرعت منذ مدة في ربط علاقات مع قوى دولية كالصين وتركيا وروسيا، ونسج شراكات اقتصادية وثقافية وأمنية معها، على أساس “رابح/رابح”. وهو ما لم يكن عليه الوضع مع فرنسا و”تعاملها الأبوي” معهم، ناهيك عن ازدواجية المعايير المعتمدة لديها وتدخلها في سياساتها الداخلية خدمة لمصالحها هناك.
إن خلاص إفريقيا برأي كل المحللين، يكمن في وضع حد لسياسة “فرانس أفريك” التي تنهجها فرنسا منذ استقلال الدول الافريقية، من خلال بسط سيطرتها السياسية والاقتصادية والثقافية عليها؛ فرنسا اليوم أضعف من أي وقت مضى، خصوصا اقتصاديا وعسكريا، بسبب كل الحركات والتظاهرات والاحتجاجات التي تشهدها القارة. لذلك، على الدول الإفريقية استغلال الظرفية الحالية من أجل التحرر من نفوذ فرنسا، لكن مع الحرص على ألا يشكل انسحابها من القارة مناسبة سانحة لمنافسيها لأخذ مكانها، سواء التقليديون (كالولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا) أو الجدد (روسيا والصين).