Uncategorized

الكاتب والاعلامي العربي الكبير يكتب لكم دفتر فراج إسماعيل

من ابن بطوطة إلى تايتان

لولا مغامراتهم وشغفهم باستكشاف عوالم جديدة، لضاقت الحياة بساكنيها، وظلت صندوقا صغيرا لا يرى المرء فيه أبعد من موضع قدميه.
عندما خرج الرحالة الأشهر ابن بطوطة من وطنه “المغرب” شابا صغيرا تاركا وراءه والديه ليبستكشف الدنيا، المعلوم منها والمجهول، كانت الرحلة بمثابة سفر على أجنحة الموت.
ففي ظل وسائل وطرق المواصلات القديمة، تستغرق الرحلة سنوات كثيرة، والأمل ضعيف في العودة، وإن كتب الله له السلامة سيعود وقد رحل إلى ربه كل من تركهم وراءه.
وأظن ذلك كان انطباع ابن بطوطة نفسه. ما أقسى فراقا لا تسمع بعده صوت من تفارقه، ولا تجد حماما زاجلا يحمل إليه ومنه رسائل الاطمئنان.
وطيلة رحلته الطويلة التي استغرقت نحو 30 سنة، من 725 هـ إلى 754 هـ التي بدأها من مسقط رأسه طنجة، مات من صاحبوه واحدا تلو الآخر إلى أن أنهى رحلته في مدينة فاس، وذلك عبء نفسي لا أتخيل كيف تحمله قلبه وصبرت عليه نفسه!
سجل مشاهداته في كتابه الوحيد “تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار” ودرسته جامعات الغرب على نطاق واسع لغزارة معلوماته التاريخية والجغرافية، واعتبر عملا استكشافيا عظيما في القرن الرابع عشر الميلادي.
ماذا كسب ابن بطوطة الذي بدأ أسفاره وعاش في بلاد الدنيا غريبا بدءا من عمر الـ 21 عاما، ومات عن 65 عاما؟!
في نظر المعاصرين له.. لم يكسب إلا التعب، فقد كان والده يعده للعمل في القضاء، وكانت أمه “فاطمة أو فطومة” ودلعها “بطوطة” تتمنى ألا يغيب عن عينيها وأن يكمل دراسته في الفقه وعلوم الدين، وكعادة قبائل شمال افريقيا في ذلك الزمن كان اسمه ينسب إليها “ابن بطوطة”.
أما في نظر علماء الجغرافيا، فقد كسبت البشرية كثيرا وظل الجغرافيون والمستكشفون يعتمدون على معلوماته في استكشافاتهم وأطالسهم حتى قرون متأخرة.
الركاب الخمسة للغواصة تيتان أرادوا أن يكونوا “ابن بطوطة” لكن إلى أعماق المحيط الأطلسي، فلا أحد قبلهم غامر بالسفر في تلك الأعماق التي تصل إلى أكثر 3 آلاف متر تحت الماء، ولعلهم يظفرون بصور سلفي مع السفينة الشهيرة تيتانيك الغارقة منذ عام 1912 على عمق يقترب من 4000 متر.
لا يعلم أحد هل اختيار اسم الغواصة “تيتان” وهو مطابق لاسم السفينة “تيتانيك” بمثابة قراءة مسبقة لمصيرهم، أو لحلول لعنة السفينة الغارقة عليهم، علما أن قائد الرحلة متزوج من حفيدة رجل وزوجته، فضلا عدم ترك بعضهما أثناء غرق تيتانيك وقررا البقاء على سريرهما متجاورين والموت معا. ما أعظم الحب والوفاء. كانت زوارق النجاة على السفينة 30 فقط ولم يسمح بركوبها إلا للنساء والأطفال.
كما تساءل معاصرو ابن بطوطة عن قيمة استنزاف نصف عمره في سفر إلى المجهول، نتساءل الآن عن قيمة الهدف الذي يجعل المليونيرات الخمسة يتركون سطح الأرض وأملاكهم الواسعة، ليقوموا برحلة سياحية في أعماق المحيط الأطلسي البعيدة والمجهولة، بواسطة زورق صغير يتم قيادته بذراعي بلاي ستيشن. وبكميات أوكسجين لا يمكنها في أحسن الأحوال أن تكفي أكثر من 96 ساعة؟!
لا البشرية استفادت ولا الأقمار الصناعية ولا التكنولوجيا المتقدمة والروبوتات المبرمجة بالذكاء الصناعي أنقذتهم. ما تم التوصل إليه أن حطام الزورق وجد على مسافة 500 متر من موقع حطام تيتانيك، مع استبعاد احتمال أنه انفجر نتيجة اصطدامه بها.
تيتانيك لغارقة شمال المحيط الأطلسي، بناها 15 ألف عامل في 3 سنوات، وارتطمت بجبل جليدي قبل ثلث ساعة من منتصف ليل الأحد 14 أبريل 1912 وبعد ساعتين و40 دقيقة ابتلعها الأطلسي و معها ابتلع 1517 راكبا من أصل 2223 راكبا كانوا فيها و جرفهم إلى عمق” 3733 مترا ” تحت مياه درجة برودتها 2 درجة مئوية تحت الصفر .
ولأنه لكل أجل كتاب، نجا المصري الوحيد الذي كان عليها واسمه حمد حسب الله، المترجم في فرع شركة توماس اند كوك بفندق شبرد بالقاهرة، وكان من ركاب الدرجة الأولى بصحبة ثري أمريكي وزوجته.
المصري كان هدية القدر لإنقاذ الثري وزوجته مع كلبهما، إذ كان يتجول على ظهر السفينة عندما سمع طاقمها يصرخون بأن السفينة اصطدمت بجبل جليدي قسمها نصفين وأنها حتما ستغرق، عاد إليهما وهرعوا جميعا مع الكلب إلى الزورق رقم 3 ونجوا، ولم يمنعهم موظفو السفينة نظرا لمكانة وشهرة الثري الأمريكي، بل غادر الزورق بهم فورا شبه فارغ مع أنه يكفي 60 راكبا.
وكأن القدر هيأ للثري الأمريكي أثناء جلسة في فندق شبرد أن يدعو الشاب المصري لمصاحبته إلى أمريكا على متن أشهر كوارث البحر ، وهو الذي كان يتقاضى 60 جنيها سنويا فقط من عمله مترجما في القاهرة.
فوق كل ذي علم عليم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى