آراء وأعمدة

الكاتب والاعلامي العربي الكبير يكتب لكم دفتر فراج إسماعيل

يوم أبكتني سيدة “موستار”

انتابني شغف وشوق لأن تحقق لي مديرة مركز تأهيل نفسي لنساء البوسنة والهرسك ما وعدتني به.
كانت سيدة ثلاثينية، لا يمكن أن تتجاهل ملامح جمالها البوسني رغم ظروف الحرب.
بت ليلتي في مدينة “موستار” في أحد بيوت سكانها مقابل 10 ماركات، وهي عملة المانيا، قبل استبدال اليورو الأوروبي بها. اكتشفت لاحقا أن زوجة صاحب البيت صربية، لكنها كانت لطيفة وكريمة، جهزت لي بعض قطع الجبن والخبز، بعد أن أخبرها زوجها الكرواتي أن أثر الجوع ظاهر على وجهي. بالفعل لم أتناول طعاما منذ الصباح.
موستار.. إحدى روائع الجمال.. أهم مدينة سياحية في مقاطعة الهرسك، تبعد 120 كم عن العاصمة “سراييفو”.. تقع على نهر نرتفا الذي اشتهر بالجسر القديم الذي بناه السلطان سليمان القانوني، لكن سلوبدان يرالياك قائد القوات الكرواتية أمر بتدميره أثناء حرب البوسنة والهرسك 1993 انتقاما من دولة الخلافة العثمانية، وعندما حوكم فيما بعد أمام المحكمة الجنائية الدولية، كان تدمير ذلك الجسر التاريخي الهام على رأس قائمة التهم الموجهة إليه.
ما سمعته من سيدة موستار ووعدتني به، سمعته قبلاً من الدكتور أيوب جانيتش، وكان وقتها نائب رئيس البوسنة والهرسك، عندما التقيته على هامش مؤتمر إسلامي نظمته هيئة الإغاثة الإسلامية في ليوبليانا عاصمة جمهورية سيلوفينيا، وهي دولة صغيرة تابعة حاليا للاتحاد الأوروبي، وكانت سابقا جزءاً من الاتحاد اليوغسلافي الذي كان يتزعمه جوزيف بروز تيتو، صديق جمال عبدالناصر، وأبرز من أسس معه كتلة عدم الانحياز.
جيلي يتذكر زياراته المتعددة لمصر، ولمدينة أسوان تحديدا، حين كان يجري بناء السد العالي الذي شارك فيه مهندسون يوغسلاف. التقيت أحدهم في زغرب عاصمة كرواتيا في إحدى سفرياتي، وكان لا يزال تحت تأثير سحر أسوان عليه.
عزمني على مطعم ألباني يقدم لحوماً مشوية لذيذة، عندما قلت له إنني من مدينة الأقصر القريبة منها في جنوب مصر.
طيلة الوقت الذي قضيناه معاً ظل هائماً في ذكرياته هناك.
جيلي يتذكر الصور العائلية في أسوان لتيتو وزوجته، مع عبدالناصر وزوجته في مدينة أسوان التي كانت تتصدر الصفحات الأولى للصحف اليومية المصرية الثلاث، الأهرام والأخبار والجمهورية.
حكيت من قبل أمر الطائرة التي حملتني من جدة مع وفد هيئة الإغاثة الإسلامية إلى فرانكفورت في ألمانيا، حيث مكثنا ساعات طويلة ترانزيت.
وعندما صعدنا إلى الطائرة التي سنسافر عليها إلى سيلوفينيا، سألني د.فريد قرشي: هل حصلت في فرانكفورت على تأشيرة سيلوفينيا؟!
اندهشت وقلت له: لم يطلب مني أحد ذلك. رد غاضبا: لن تدخل. سأحاول عندما أدخل سيلوفينيا أن أجد حلاً. لكن في المطار عليك أن تتأخر عني، فإذا رفضوا دخولك، سيكون في استقبالنا مسؤولو الضيافة، ويمكنهم حل المشكلة.
فوجئت بمنع دخوله هو، ولما تقدمت حصلت على ختم الدخول بسهولة وسرعة كأنني في مطار القاهرة، نظرت إليه فإذا هو غارقاُ في الدهشة والاستغراب.
ظللنا ننتظره إلى أن أنجز مسؤولو الاستضافة أمر دخوله.
عرفنا وقتها السر. جواز سفري المصري هو السبب، فقد كان هناك اتفاق منذ زمن عبدالناصر وتيتو يسمح بدخول المصريين إلى يوغسلافيا، واليوغسلاف إلى مصر بدون تأشيرة، وكانت لا تزال مطبقة في سيلوفينيا رغم استقلالها وحل الاتحاد اليوغسلافي.
الدكتور أيوب جانيتش أصبح رئيسا للبوسنة والهرسك فيما بعد، أو بالأحرى عضو مجلس رئاسي ثلاثي أدار البلاد. وبعد انتهاء الحرب الأهلية تولى رئاسة جامعة العلوم والتقنية في سراييفو.
لم يكن حوار سيلوفينيا هو الأول أو الوحيد. أجريت حوارات عديدة مع جانيتش خلال حرب البوسنة بعضها هاتفيا من جدة.
كان مهموما بمستقبل نساء البوسنة اللائي أغتصبهن الصرب. بعض الحالات حدثت أمام ذويهن.. أزواج أو أباء أو أشقاء، كأشد أنواع الإكراه والذل للمسلمين. كانوا يقولون عنهم “أتراك” ورغم اختلاف الأجيال ومرور الزمن منذ منتصف القرن الخامس عشر، لم يتخلوا عن حقد الانتقام من فتح الدولة العثمانية لمملكتهم السلافية.
في 2010 تعرض أيوب جانيتش للاعتقال لدى هبوطه مطار هيثرو في لندن بناء على مذكرة اعتقال صربية بتهمة ارتكاب جرائم حرب أثناء حرب البوسنة والهرسك. كان في الواقع يدافع مع زملائه عن مواطنيه مسلمي البوسنة في مواجهة حملة مذابح واغتصابات صربية بشعة.
ظل خمسة شهور لا يستطيع مغادرة بريطانيا والعودة لسراييفو، إلى أن حكم القضاء البريطاني، بأنها تهمة سياسية من السلطات الصربية غير حقيقية.
في حوار سيلفونيا تحدث جانيتش بمرارة عن المغتصبات الحوامل من مسلمات بلده.
سيدة موستار، قالت لي: لك عندي مفاجأة، سأخذك إلى معسكر لتأهيل المغتصبات نفسيا.
فكرتها تحولت إلى تحقيق مثيرة نشرته على صفحة كاملة في “المسلمون” تضمن صورا لبعض أطفال الاغتصاب الذين خرجوا إلى الحياة.
رأيت عشرات البطون المنتفخة. استمعت إلى قصص قاسية على من يسمعها، أو من تحكى له.
ولولا أني سمعتها بنفسي من صاحباتها، ما صدقتها.
لقد مكثن محتجزات عدة شهور في مراكز اعتقال، كن خلالها وليمة للحيوانات الآدمية.
القوات الصربية عزلت النساء في مبان حكومية تحولت إلى مراكز اعتقال، كن فيها تحت الطلب، ومن ترفض تقتل أمام الأخريات.
سيدة موستار التي كانت تترجم لي، تجاهلت سؤالي لكل واحدة منهن عن عدد مرات الاغتصاب.
عندما عدنا إلى مركز التأهيل النفسي الذي تديره، سألتها عن سر التجاهل، فردت بهدوء شديد: إنه سؤال غير إنساني، يمكنك أن تتوقع عدد المرات في مركز اعتقال احتجزن فيه شهوراً لإشباع رغبات الأوغاد، لكن أياً منهن لا يمكنها أن تتذكر العدد!
أبكاني ردها رغم أن دموعي عزيزة، لكن كيف لي ذلك في موقف يفوق تحمل البشر؟!..
قدرت تقارير المنظمات الإنسانية عدد المغتصبات بين 20 ألفا و50 ألفا. سيدة موستار أجابتني بأن هذا الرقم أقل بكثير.
لقد تطوعت لرفع الضرر النفسي عنهن من خلال مركز تأهيل، وما توصلت إليه أنه رقم هائل.
حدثتني عن طلاق بعضهن، أو عدم تقبل أسرهن لهن، رغم أنه لا حيلة لهن في ما جرى.
لم يكن هناك حل سوى أن يسافرن إلى دول أوروبية قبلت أن تأويهن، مثل ألمانيا، أما هن فقد استقبلن بارتياح فتاوى الشيخين محمد الغزالي ويوسف القرضاوي وجمهور من علماء المسلمين بشأنهن.
بعد مرور 27 سنة قال أحدهم لقناة TRT التركية، وهي آينا يوزيتش رئيسة منظمة أبناء مغتصبات الحرب البوسنية: “قبل 27 سنة حُكم على أمي أن تعيش مصير الاغتصاب في أثناء الحرب، الذي نتج عنه حمل الذي هو أنا”.
أمها على العكس من بعض أقرانها قررت الاحتفاظ بجنينها.
“لسنوات طويلة بقيت أمي محكومة بعيش المأساة في مجتمع يلومها على الاستمرار في الحياة بعد ما وقع، ويرى فيها وصمة عار ويلقي بالذنب عليها”.
أخفت عنها أمها قصة مجيئها إلى الدنيا 15سنة لكي تبعدها عن تاريخ غير مشرف بالنسبة لمجتمعها، “لكني اكتشفت الحقيقة
يوم أجبرتني الدراسة على ترك عائلتي والعيش في مدينة أخرى. أتت اللحظة التي فشلت فيها في الإجابة عن أبسط الأسئلة، التي كانت الأصعب في حالتي: (آينا، ما اسم والدك؟)، وقتها علمتُ أنني أتيت إلى الوجود عن طريق أبشع الجرائم التي ارتُكبت في حق جسد إنسان، ونتاجاً لأقسى تجربة مرت بها والدتي”.
“أمي كانت من دخلها القليل جداً تزور عيادات الدعم النفسي، وتتعاطى كل أنواع الأقراص المهدئة، إضافةً إلى مصاريف رعايتي، طارقة عدداً لا يُحصى من الأبواب، مستجديةً إياها.. هل مِن جهة حكومية تعترف بطفلتها، وفي كل مرة كانت مساعيها تخيب”.
يقول التقرير “لم يُرد اعتبار المغتصبات، 800 فقط يتلقين تعويضات لا تزيد عن 20 دولارا شهريا”.
وذكر تقرير لمنظمة العفو الدوليَّة، إنه منذ 2004 لم يستمع القضاء البوسني إلا إلى 1% من ضحايا الاغتصاب، ولم تعالج المحاكم البوسنية سوى 123 قضية، فضلاً عن طول مدة المحاكمات وضعف جدواها.
ذكر د. يوسف القرضاوي رحمه الله في موقعه على الانترنت، إنه حضر في زغرب، عاصمة كرواتيا، مؤتمرا عام 1991، مع الشيخ محمد الغزالي والكاتب الكبير فهمي هويدي والشاعرة علية الجعار، والشيخ الدكتور مصطفى سيرتش (مفتي البوسنةالسابق) وهو حاصل على دكتوراة في اللغة العربية من جامعة الأزهر، والدكتور محمد عمر الزبير.
وفي كتابه “فتاوى معاصرة” الجزء الثاني، سجل الشيخ القرضاوي إجابته عن أخطر سؤال وجه له في ذلك المؤتمر عن حكم اجهاض المغتصبات.
خلاصة الفتوى أن هؤلاء لا ذنب عليهن إطلاقاً، ولا يجوز لمسلم ولا لمواطن أن يوجِّه إليهن أي إساءة بالعبارة ولا بالإشارة، لأنهن فعلن ما فعلن تحت سيف الإكراه، والمكره معذور بالإجماع.
واقترحت الفتوى على البوسنيين أن يتقدَّموا للزواج منهن، وعلى المجتمع أن يحتضن مواليدهن إذا ولدوا، ويربيهم على الإسلام، وقد ولدوا على الفطرة، ولا يحملون وِزْر آبائهم، ولعلَّ الله يخرج منهم ذرية صالحة تخدم الإسلام.
وزاد أن من لم يبلغ حملها الأربعين يوما فيمكنها أن تجهضه، كما هو رأي جماعة من الفقهاء، بل أجاز بعضهم الإجهاض في مثل هذه الحالة إذا لم يبلغ الحمل مائة وعشرين يوما، وهي التي جاء فيها الحديث الصحيح: “أنه ينفخ فيه الروح”.
مضى نحو 4 عقود إلا قليلا على قصة أصعب الموضوعات على نفسي، والتي كتبتها في مطلع تسعينيات القرن الماضي، وكانت “سيدة موستار” صاحبة فكرته.
لا أعلم كيف مضت بها الحياة بعد ذلك، لكني متأكد أن بعض البطون التي كانت منتفخة بحملها قهراً وتنكيلاً، أخرجت إلى الحياة كثيرين مثل الناشطة “آينا” لا يعلمون آباءهن، لكنهم اكتشفوا مثلها أنهم جاءوا للحياة من أمهات دفعن ثمنا مريرا من الشرف والإنكار المجتمعي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى