الكاتب والإعلامي العربي الكبير يكتب لكم دفتر فراج إسماعيل
أيامنا وأيامهم في رمضان (1)
أتذكر أيام طفولتي في رمضان قريتي التي لا يفصلها عن الجبل سوى مساحة خضراء صغيرة، تمكننا من رؤية غروب الشمس خلفه بوضوح ثم اختفائها.
كان والدي معنيا بإعلام جيراننا موعد الإفطار عبر “الخبط” على برميل فارغ وضعه أمام البيت كأنه مدفع رمضان، وأحيانا بوضع “قادوس” – فخار يشبه الزير به فتحة ضيقة أسفله – على مدخنة الوابور الارتوازي الذي يسحب المياه الجوفية من باطن الأرض لري الزراعة، فيتضخم صوت المدخنة إيذانا بدخول المغرب.
أما كيف يعرف التوقيت؟.. فكانت طريقته عجيبة ومدهشة. لا يستخدم ساعة فهو لا يحوز تقويما، ولا يمكنه الإفطار على مدفع إفطار إذاعة القاهرة، حيث كان الراديو هو الوحيد المتوفر، فهناك فارق توقيت كبير بين القاهرة ومحافظتنا “قنا” في أقاصي صعيد مصر.
يجلس على الترعة في مواجهة الغروب، وبمجرد أن تغطس الشمس، يتمتم بسورة “الفلق” ويكررها مرات كثيرة، فإذا أتم العدد الذي يريده يأمرنا بالخبط على البرميل أو وضع القادوس على المدخنة إيذانا بالإفطار، ويتولى الأطفال بصياحهم “افطر يا صايم” نقل الخبر إلى أكبر عدد من البيوت. أطفال كل مجموعة سكنية تنقل عن أطفال ما قبلها، وهكذا يسري إعلام دخول الوقت كأنه تطبيق عملي لنظرية الأواني المستطرقة.
عندما يحين ذلك يكون قد مر ربع ساعة أو أقل قليلا على مدفع افطار راديو القاهرة، ننتهي خلالها من سماع ابتهالات الشيخ النقشبندي، ثم البرامج السريعة.
ونحن على مائدة الافطار نسمع المسلسل الرمضاني لفؤاد المهندس وشويكار الذي يستغرق ربع ساعة، وكان مسلسل “شنبو في المصيدة” ومسلسل “العتبة قزاز والسلم نايلو بنايلو” أول ما وعيت منه.
مع التقدم عرفت فيما بعد أن توقيت منطقتنا يسبق القاهرة بنحو عشر دقائق، وأننا كنا في الواقع نصوم إلى ما بعد المغرب بوقت كبير.
نلتف حول الراديو لنسمع أساطير “ألف ليلة وليلة” وفوازير مذيعة الراديو الشهيرة وقتها آمال فهمي، ونصلي العشاء والتراويح، وفي السحور نسمع برنامج “أحسن القصص”.. ثم المسحراتي الجميل بصوت سيد مكاوي. وهنا نقوم بالخبط على البرميل أيضا إيذانا بالسحور، وهو التوقيت الوحيد الذي التزمنا فيه بإذاعة القاهرة.
أتكلم هنا عن قرية معزولة في ظل ندرة المواصلات مع أقرب مدينة إليها وهي الأقصر، وطرق غير مرصوفة. لكن رمضان كان أجمل من رمضانيات زمننا الحالي رغم كل ذلك.
خيره وفير بداية من مائدة الإفطار التي لا تتجاوز الانتاج المحلي من زراعات القرية المتوفرة في كل بيت، من التمر الطازج والفول الذي تم تدميسه في فرن الطين، وسلاطة الطماطم بكل أنواع الخضراوات، والكنافة التي يصنعونها من وضع العجين في كوب مثقوب وصبه على لوحة دائرية فوق نار موقد الحطب.
لم يكن هناك احتياج إلى التسوق من محلات خارج البيت. أصلا لا يوجد منها إلا من يبيع الشاي والسكر والسجائر ومستلزمات الجوزة “الشيشة”.
وهكذا طعام السحور المتوفر أيضا من انتاج البيت من الطيور. أما اللحوم فيوزعها الجزار خلال رمضان على البيوت في أيام معينة وفق نصيب كل بيت، والثمن يحصله فيما بعد بطريقته.
تلك أيامنا التي أحن إليها واشتاق، كالاشتياق إلى الراحلين عن دنيانا الذين ملأوها حبا وتكافلا ورحمة في رمضان.
وإلى أيام أخرى..