الكاتب والإعلامي العربي الكبير يكتب لكم دفتر فراج إسماعيل
أيام نظير البياض
اشتريت أمس كرتونة تحوي 30 بيضة ودفعت للسوبر ماركت ثمنها عدا ونقدا ما يعادل أكثر من 4 دولارات بأسعار تحويل نفس اليوم الذي وصل 30.52 جنيها في أغلب البنوك المصرية.
أضطررت أن أحسب بالورقة الخضراء الأمريكية القيمة النقدية التي دفعتها طبعا بالعملة المحلية، لأن فقس البيض ترتفع تكلفته مع الإرتفاع المستمر للدولار!
لا أعرف سر هذا الربط الغريب.. هل تأكل الدجاجة التي يسميها المصريون “فرخة” طعاما مستوردا؟!.. إذن كيف استخدمت في الماضي الريفيات المصريات بيضها لشراء لوازمهن بالتقسيط كالملابس والخلاخيل وحتى المجوهرات دون أن يضعن في اعتبارهن أنهن يدفعن تكلفتها بالدولار، حتى لو كان وقتها يعادل أقل من جنيه مصري واحد؟!
أتذكر “نظير البياض” عندما كان يمر يوم الأربعاء أسبوعيا على بيوتنا القروية ليجمع ما جمعته الريفيات من البيض، مقابل ما يحضره لهن من اللوازم السابقة.
“البياض” كان لقبه الشائع في ذلك الزمن مرتبطا بحرفته في جمع البيض، وكنت وقتها أشفق على حاله، وحال الحمار العجوز الذي يحمله مع قفصيه في رحلة طويلة تنقله إلى دروب قريتنا والقرى المجاورة.
سبب إشفاقي أن حصيلة ما يجمعه زهيد جدا، فثمن البيضة لم يكن تجاوز بأي حال نصف قرش.. فكم يحتاج ليجمع ثمن حجل “خلخال” أو حلق من الذهب أو أسورة أو قطعة ملابس تدفع المرأة الريفية ثمن أي منها بتقسيط البيض؟!
عثرت مرة على كمية وفيرة من البيض في عش سري لدجاجة، ربما اختارته لتحمي انتاجها من التبديد، وقمت بجمعه لأمنحه مرة واحدة للرجل القبطي الطيب “نظير البياض” ولكن والدتي رحمها الله ضطبتني متلبسا، فأعطتني درسا بليغا في توزيع الاحتياجات، فهناك جزء للطعام اليومي وجزء لنظير وجزء للفقس، ولا يجوز أن تطغي حاجة ضرورية على أخرى، ولا أن يلتهم غير الضروري وما يمكن تأجيله، احتياجاتنا العاجلة.
ذهبت للجامعة في سوهاج فكان أسهل طعام لي هو البيض، لا يأخذ وقتا في تجهيزه، مع رخص ثمنه. وجدت أن اسمه هناك هو “الدحروج” ربما لأن البيضة تتدحرج كالكرة، ولم اكتشف يومها طبعا أن قيمتها ستتدحرج مثل اسمها رأسا برأس مع الدولار.
لو عاد نظير البياض إلى الحياة لحسدته على مهنته ولبدأت أحسب كم ورقة خضراء يحملها على حماره!
أمام بائع صحف شهير في محطة الأقصر، مدينتي التي حصلت فيها على تعليمي الإعدادي والثانوي، التقطت الصحيفة اللبنانية العريقة “لوريان لوجور” التي يمتد عمرها إلى أكثر من قرن.
الصحيفة بالفرنسية، وأنا لا أتحدثها أو أكتبها، لكن السر أن سائحا تونسيا تعرفت عليه وعلى زوجته واستضفتهما في منزلنا، قال لي أيامها وكنت في سنتي الأولى أو الثانية الثانوية، أن حرية الصحافة لا مكان لها في العالم العربي سوى في لبنان فقط، واستدل بتلك الصحيفة.
كلامه الصادم جاء ليحذرني من الطريق الذي سأختاره لاحقا وأخبرته به.
وعندما أظهرت التململ وعدم الاقتناع أو عدم الفهم، شرحت لي زوجته، وكانا في شهر العسل.. “الصحافة عندكم مثل البيض”!..
تماما مثلما نقول نحن عن ضحالة الشيء “العدد في الليمون”. لا البيض أصبح ميسورا ولا الليمون مستطاعا.
تذكرت مقولتها وضحكت وأنا أقرأ في منصة “لوريان توداي” التي تصدر عن الصحيفة العريقة سالفة الذكر، أن محتجين لبنانيين أحرقوا عددا من البنوك بسبب ارتفاع الدولار إلى رقم تاريخي غير مسبوق من الليرة اللبنانية.
صحيح أن “لوريان” لا تزال تتمتع باستقلالها التحريري، ولم تتزحزح عنها حتى عندما اصبح رئيس مجلس إدارتها الراحل ميشال إده وزيرا في حكومة الراحل رفيق الحريري. وقتها سأله كيف تنتقدنا صحيفتكم وأنت وزير في الحكومة؟!..
رد عليه “يا دولة الرئيس إنهم صحفيون وليسوا موظفين”.
صحيح أنها لا زالت تتنفس حريتها.. لكن ذلك لن يستمر طويلا مع غلبة الدين وسيطرة البيض وتوحش الدجاجات والديكتاتوريات وحروب الدولار..