الكاتب والإعلامي العربي الكبير يكتب لكم دفتر فراج إسماعيل
هلوسة حرارة الأربعين
أتخيل عالما لا نراه ولا نلمسه يحيط بنا. أشخاصه قد يكونون في عداد الموتى منذ زمن بعيد وصاروا نسيا منسيا.
صحيح أن الرؤية المنامية لا تخلو من ذلك العالم الإفتراضي، فيلتقي المرء أمه الميتة وأباه الذي يرقد تحت الأرض، وربما رحل قبل خروجه هو إلى الدنيا، لكنه يتمكن من وصف ملامحه ونبرات صوته ومشيته، فيجد من كان معاصرا له يؤكد أن كل تلك الصفات صحيحة.
من أهل الخطوة والاستقامة من يصحو من نومه على رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم، أو رؤية الصديق أو الفاروق رضي الله عنهما، ويصف وصفا دقيقا كلا منهما، فإذا بها توافق كتب التراث الإسلامي التي لم يكن قرأها.
عندما وصلت حرارتي الأربعين وهبط ضغط الدم إلى درجة أدنى مما ينبغي، أخبرني المحيطون بأنني هلوست كثيرا. استقبلت ضيوفا لا يرونهم أو يسمعونهم، خاطبت بعضهم بالاسم. أسماء عديدة لا يعلمون عنها شيئا، ليسوا من أصدقائي ومعارفي الذين يعرفونهم أو سمعوا عنهم مني.
ورأيتهم يتذكرون بعض الأسماء، فإذا كلهم أموات منذ زمن بعيد، أنا شخصيا نسيتهم ونسيت ملامحهم، بل إن بعضهم من رجال التاريخ الذين قرأت سيرهم، وتفصلني عنهم قرون.
من خطب فضيلة الشيخ عبدالحميد كشك رضي الله عنه، إن ورقة الامتحان جاءته في منامه، وفي اللجنة وجدها كما رآها.
كان الأستاذ سعيد إسماعيل، أشهر مخرجي مؤسسة أخبار اليوم، عليه رحمة الله، شغوفا بما وراء العالم المحسوس، وكتب عنه في يومياته وألف كتبا عنه، وعقب انتهاء محاضراته الأسبوعية في مادة الإخراج الصحفي بكلية الآداب بسوهاج، كنت وبعض الزملاء نختلس زمنا معه على كورنيش سوهاج، يوم كان جميلا يرد الروح، نسمع منه حكايات مشوقة عن ذلك العالم المجهول.
وسألته في بعض تلك الجلسات عن مدى صحة أسطورة التوءم، الذي تغادر روحه جسده ليلا وهو نائم وتتحول إلى قط، يدخل بيوت الجيران القريبة والبعيدة، ويأكل ما يجده من طعام.
ومع أنه نفى تلك الأسطورة نفيا قاطعا، لأن الله خلق الإنسان في أحسن تقويم وهيئة وكرمه، فلا يمكن أن يسخطه إلى قط، إلا أنني سمعت من توائم حكايات أذهلتني.
قال لي أحدهم إنه استطاع وهو “قطة” الوصول إلى دجاجة مطهية جهزتها صاحبة الدار لزوجها في العشاء والتهمها، وذات يوم لحقت به وضربته على جبهته. في الصباح وجد آثار الضربة على جبهته بالفعل، وأراني آثارها.
وكان أهالي التوائم الذين يسرحون ليلا كقطط، يطلبون من الجيران ألا يؤذونها، لأنها في الحقيقة أبناءهم.
وأكثر من ذلك يتحاشون لمس أجساد توائمهم وهم نيام، لأنهم يتصورون أن أرواحهم في جولة حرة خارجها، وقد لا تعود للجسد نهائيا في حال لمسه.
قرأت للدكتور عبدالله العمادي إن عالم الأرواح مساحة متاحة لتعميق الإيمان بـالله. عالم من الأسرار. من فقدناهم من الأحباب، إنما فقدنا أجسادهم فيما أرواحهم لا تزال حية بصورة ما في حياة أخرى لها قوانينها ولا نعلم عنها كثيرا.
ويعتقد الشيخ محمد المنجد أن الإنسان يتقلب مع روحه من حال إلى حال مصداقا للآية الكريمة “لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ [الانشقاق:19] .
لاحظ أنني لا أقصد ولا أتبنى ولا أتحدث عن نظرية “استنساخ الأرواح” التي ينكرها أهل السنة. ليس هذا موضوعي ولا صنعتي.
أتكلم عن وجود عالم آخر غير العالم المادي الذي نعيشه والذي لا يؤمن البعض بوجود غيره.
في حلقات الدكتور مصطفى محمود رحمه الله وفي كتبه الكثيرة، ذكر مرارا ذلك العالم الذي نجهله. أتذكر له روايتي العنكبوت، والخروج من التابوت.
وفي “حوار مع صديقي الملحد” أكد الدكتور مصطفى أن جلسات “تحضير الأرواح” نوع من النصب والشعوذة، وحضر بنفسه الكثير من الجلسات، ولم يجد دليلا منطقيا على حضور الروح، أما ما يحدث في الغرفة المظلمة من ظواهر فتحتاج إلى تفسير علمي.
وفي زمن انتشرت في مصر “سلة أنيس منصور” المقتبسة من كتابه “حول العالم في 200 يوم” المطبوع عام 1959 وفيه حكى عن سلة تحضير الأرواح في اندونيسيا.
وقد طلب تحضير روح السيدة روز اليوسف صاحبة المجلة الشهيرة، فشتمت الحاضرين وقالت “بلاش لعب عيال”.. وروح الموسيقار “بيتهوفن” فارتجفت السلة بجنون، وكان ذلك هو حال الموسيقار عندما أصيب بالصمم في أخريات حياته.
وعندما طلب أنيس تحضير روح شفيقة القبطية تمايلت السلة كأنها ترقص على واحدة ونص!
أخذني صديقي الصحفي السعودي خلف السليمان إلى جلسة جماعية لشيخ مشهور من المدينة المنورة يخرج فيها الأرواح الشريرة من الأجساد المريضة الهائمة، وكنا قد نشرنا عنه في جريدة “المسلمون” في تسعينيات القرن الماضي”.
لم أكن مريضا ولا هائما، ومع ذلك شدد خلف على أن أتبع التعليمات جيدا، فربما تسكنني روح تعيش في حالها لا تهش ولا تنش، ولكنها مع قراءة الشيخ ستخرج مع القيء الذي سأستقبله في السلة التي ستعطى لي.
وجدت كثيرين جالسين متجاورين، وجلست مع خلف السليمان بينهم. كل منهم في كامل وعيه وصحته كما بدا لي.
وضعت سلتي أمامي كما فعل كل منهم، وقد استغرقت في تلاوة آيات من سورة “يس” لأهرب من حالة الخوف، بينما كل منهم مع وصول الشيخ إلى حد معين من القراءة، بدأ يفرغ ما في جوفه في السلة بقيء متواصل كأنه مسموم!
عندما خرجنا بشرني خلف السليمان بأنني سليم لأنني لم اتقيأ، أما هؤلاء فقد كان قيئهم خروجا للأرواح الشريرة!
أهل العلم والطب والواقع يرونها أساطير وأوهام وخزعبلات ولا يؤمنون حتى بالإشارات التي تأتي في الرؤى المنامية.
الشيخ محمد متولي الشعراوي رضي الله عنه وأرضاه رأى في منامه الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته في غزوة الأحزاب، فأكملوا له ما أنقصه في درس سابق لعدم علمه به، وصححوا له بعض ما قاله.
فصحح له سعد بن معاذ رضي الله عنه أن الذي ضربه في أكحله ليس ابن الندر، إنما هو حيان بن قيس بن العرفة”.