الكاتب والإعلامي العربي الكبير يكتب لكم …دفتر فراج إسماعيل
أيامنا وأيامهم في رمضان (4)
“على مائدة الإفطار”.. برنامج تليفزيوني ظللنا نتابعه ونفطر عليه طيلة شهور رمضان في السعودية.
الشيخ علي الطنطاوي، عليه رحمة الله الذي توفي في العام 1999، في السنة التي تركت فيها جدة نهائيا عائدا إلى القاهرة، كان يظهر عقب إفطار المغرب في القناة الأولى السعودية، ليتكلم عن أمور دينية ودنيوية، بإرتجال لطيف، ولغة عربية سهلة وجميلة، وبمعلومات تفيض منه كعالم وأديب موسوعي، لا يترك شاردة ولا واردة من القديم والجديد، رغم سنه المتقدم، فهو من مواليد 1909، أي أنه مات عن 90 عاما.
الطنطاوي سوري من أبناء دمشق، عائلته ذات باع وشهرة في الأدب والصحافة، فخاله محب الدين الخطيب، الأديب والصحفي والباحث والناشر الذي أسس عدة صحف في دمشق والحجاز والقاهرة، ومن مؤسسي جمعية الشبان المسلمين في الأخيرة.
سيرة الشيخ الطنطاوي نفسه ذات جذور ضاربة في عالم الصحافة وساحة القضاء، وصل إلى أعلى مراتب القضاء في دمشق والقاهرة، وكتب في مجلة الرسالة لأحمد حسن الزيات من عام 1933 إلى إغلاقها 1953، وظل 50 عاما يقدم برامج في الإذاعة في مختلف المحطات حتى وصف بأنه أول مذيع في العالم، وانتهت به تلك المسيرة الطويلة ببرنامجه “على مائدة الإفطار”.
نعم هو سوري كما أسلفت، لكن جده لأبيه ينتمي لأصول من مدينة طنطا المصرية، ومن ذلك جاء لقبه “الطنطاوي”.. وعندما استقر به المقام نهائيا في السعودية عرفناه كسعودي.
هو في الواقع انعكاس لأمة واحدة، فقد عاش أيضا في بيروت وبغداد، وله كتاب عن الأخيرة، وقضى فترة طالبا في مدرسة دار العلوم العليا بالقاهرة (كلية دار العلوم) لكنه لم يكمل لأسباب غير معروفة، ثم قضى سنة موفدا من القضاء السوري ليدرس قانون الأحوال الشخصية المصرية، وفي ضوء نتائج تلك الدراسة وضع قانون الأحوال الشخصية في سوريا.
يستحق الشيخ الطنطاوي هذه الإطالة، فهو علم فريد، جعل لرمضاناتي في السعودية، مذاقا لن تبدله السنون والكهولة والشيخوخة.
إلى الآن إذا ظهر هلال رمضان، أشعر بشوق إلى مائدة الإفطار التي كان يطل منها.
لم يكرمني الله بلقائه، فقد كان مسنا، يقضي أيام شيخوخته ببيته. لكن الله أكرمني بلقاء عالم بارز طالما هز اسمه الآفاق في العالم الإسلامي، وقيمته الدينية تأخذ مكانة متقدمة بين علماء الدين الأفذاذ.
شعرت أنها جائزة كبرى أن اتناول الطعام من ذات الطبق الذي يأكل منه في الوقت نفسه الشيخ عبدالعزيز بن باز عليه رحمة الله رئيس هيئة الإفتاء السعودية السابق.
وشعرت بالدهشة أن ذلك العالم الضرير يسألني عن بلدي في مصر، ولما أجبته بأنني من محافظة قنا، راح يسألني عن مدن وأماكن وأشخاص كأنه نشأ فيها.
وكأن أمي دعت لي أن يلقى وجهي هؤلاء الأفذاذ، فقد ذهبت مدعوا ضمن وفد إلى مدينة الباحة، فإذا في السيارة معي، بل وبجانبي على المقعد إمام وخطيب المسجد النبوي، قارئ القرآن الكريم الأشهر، الشيخ علي الحذيفي.
وفي شقة بمدينة جدة لم يدر بخلدي في أمسية رمضانية استمرت حتى قبل السحور بقليل أن الدكتور عبدالله عزام عليه رحمة الله بين الحضور، وهو نفسه الذي أجلس قبالته، ثم أسأله: لماذا لا يجاهد في بلده فلسطين وابتعد إلى أفغانستان، فيجيبني بسعة صدر علماء من السلف الصالح.
وأظن أن تلك الأمسية أتاحت لي فيما بعد أن أظفر بآخر حوار له قبل اغتياله مع بعض أبنائه بلغم انفجر في سيارته وهو في الطريق لصلاة الجمعة في مدينة بيشاور بباكستان.
رحم الله الجميع ورحم أمي التي لا يزال دعاؤها يظلني أينما حللت.