الكاتب والإعلامي العربي الكبير يكتب لكم دفتر فراج إسماعيل
أيامنا وأيامهم في رمضان (3)
أول رمضان بعد فترة التجنيد قضيت معظمه في بغداد ومدينة بعقوبة، ويومين أو ثلاثة في مدينة “بلد روز” قرب جبهة الحرب مع إيران التي كانت مستعرة في ذلك الوقت.
في نهار رمضان أتجول في شارع الرشيد حيث المكتبات والمتاجر. أذهب إلى ساحة التحرير لأراقب حياة شعب في ظل حرب طويلة ومكلفة ومدمرة للبشر والاقتصاد.
العراقيون كانوا يعيشون حياتهم بصورة طبيعية. الأسعار في متناول أفقر الفقراء. عندما أدخل مطعما لأفطر المغرب بما لذ وطاب من الطعام والشراب، لا أتكلف سوى دينارات زهيدة.
وسائل النقل العام ذات رفاهية في الراحة والسفر لم نكن عرفناها في مصر في ذلك الزمن.
أنا هنا أفصل بين السياسة ونظام الحكم وبين حياة مجتمع. أتكلم بصراحة عن أجواء رأيتها وحياة يومية في جزء منها لم يزد عن شهر رمضان الذي قضيت آخر ثلاثة أيام منه في العاصمة الأردنية “عمان”.
سكان العواصم القديمة ذات التاريخ الحضاري مثل القاهرة ودمشق وبغداد والرباط يشعرونك بالألفة وتذوب فيهم سريعا، فلا تنتابك أحاسيس الغربة.
ابتعت كتبا من مكتبات الرشيد ودخلت دار سينما، أظنها كانت الوحيدة في ذلك الشارع.
وجلست على “قهاوي بلدي” كأنني في مقاهي الحسين والسيدة زينب في القاهرة. أشرب الشاي في “كاسة” صغيرة. أداعب النادل بطلب “شاي صعيدي” فيفهم ويضحك كأنه سمعها قبل ذلك من المصريين وما أكثرهم. تقابلهم في الشارع والمقهى وداخل المتاجر أو داخل الباص وأنا اتنقل داخل بغداد أو بين بغداد ويعقوبة.
متعة الاستماع إلى الجدل دون مشاركة مني عرفتها عندما دخلت مقر مجلة “ألف باء”.
عرفت تلك المجلة منذ سنوات بعيدة عندما التقطتها من بائع صحف في محطة الأقصر، وظللت أواظب عليها أسبوعيا، مثلما كنت أواظب في السبعينيات على “مجلة الاخاء” الإيرانية التي كانت تصدر في طهران باللغة العربية وتقدم مواهب مغمورة في الشعر والقصة من محافظات وقرى مصر.
صدر العدد الأول هذه المجلة السياسية الأدبية المصورة الأسبوعية في 22 مايو عام 1968 في آخر عهد الرئيس الراحل عبدالرحمن عارف الذي سمح ببعض الانفتاح الإعلامي والسياسي، لكنه خرج من السلطة في الإنقلاب البعثي في يوليو، بعد أقل من شهرين.
وتوقفت ألف باء يوم سقوط بغداد في 9 أبريل عام 2003 مع أن العدد كان قد تم تجهيزه في المطبعة ومعدا للتوزيع.
كانت مشهورة جدا في العالم العربي، والأشهر في تاريخ صحف العراق، لعلها في الثمانينيات والتسعينيات من بين أعلى المجلات العربية توزيعا، تطبع 175 ألف نسخة من 80 صفحة ملونة من الورق الفاخر، توزعها بدون مرتجع، وفي إمكان السوق استيعاب ربع مليون نسخة، وذلك يفوق قدرة المطابع العراقية وقتها.
تصدر صباح كل أربعاء، تعاقب على رئاسة تحريرها صحفيون عراقيون كبار، أشهرهم وأكثرهم حرفية حسن العلوي الذي لقبوه بهيكل العراق، تشبيها بالأستاذ محمد حسنين هيكل لقربه من الرئيس أحمد حسن البكر والرئيس صدام حسين.
أعدم صدام بعض أقاربه فيما بعد، وأبعده من حزب البعث، وخرج من المجلة إلى السجن، ثم تمكن من الهرب إلى الأردن.
سألت عن مكانها في بغداد وذهبت إليه سيرا على الأقدام من أقرب محطة باصات.. وكانت في منطقة هادئة راقية. والغريب أنني دخلتها بسهولة على العكس تماما من الصعوبات التي نقابلها عندما ندخل دور الصحف المصرية.
والأعجب أنني وجدت نفسي سريعا في مكتب مدير التحرير وكان رجلا فاضلا مثقفا نسيت اسمه.
تحدث معي وطلب لي شايا، وعرف أنني تخرجت حديثا في قسم الصحافة، وفتح مجالات نقاش متعددة، استنتجت منها أنه يختبر معلوماتي العامة، ويبدو أنني أعجبته، فالتقط سماعة الهاتف وتكلم مع أحدهم، سرعان ما عرفت أنه “كامل الشرقي” رئيس التحرير.
رغم أن الذاكرة شاخت فإنها تحتفظ بتلك التفاصيل وتسترجعها كأنها حدثت بالأمس.
بمجرد أن وضع الهاتف، وقف مدير التحرير ودعاني أن اتبعه، حيث دخل بي إلى مكتب “رئيس التحرير”.
كل ذلك وأنا مندهش.
لم أتخيل تلك السهولة في دخول بلاط صاحبة الجلالة والجلوس خلال دقائق مع كل من مدير التحرير ورئيس التحرير.
صحيح أنني جلست مع القامة العظيمة الأستاذ مصطفى أمين وأنني طلبت أن أعانقه فوافق، لكن ذلك كان بصحبة طلبة دفعتي في قسم الصحافة، وأساتذتي وأبرزهم د. منير حجاب والصحفيان الكبيران صلاح قبضايا وسعيد اسماعيل اللذان كان يحاضران لنا في سوهاج.
وصحيح أن الدكتور صلاح قبضايا أخذنا في نفس اليوم إلى مكتب الأستاذ موسى صبري رئيس التحرير.
ولكن ذلك كله ونحن طلبة بمعية أساتذتنا الكبار.
أما أن أذهب إلى مجلة كبيرة في بغداد لأول مرة بدون واسطة وأقابل سريعا أكبر قيادتين فيها، فذلك أكبر من استيعابي.
سألاني عن المجال الذي أجيد فيه، فقلت “السياسة”.
ولم أدرك طبعا بلا خبرات عملية سابقة أنها حقل ألغام في صحافة النظم الديكتاتورية، فما بالك بنظام بعثي يحكمه حزب البعث.
مدير التحرير تدخل وقال إنه يفضل أن اختلط بضعة أيام بأقسام المجلة وأتعرف على طبيعة العمل فيها. بدأ بقسم الترجمة حيث طلب من رئيسه أن انضم إليهم.
لم أكن متحمسا. القاهرة يجب أن تكون بدايتي وصحافتها رغم صعوبة دخولها في زمني، هي المدرسة الحقيقية.
الأيام التي ترددت فيها على “ألف باء” هيأت لي حضور جلسات رائعة، استمعت فيها إلى مفكرين وكتاب عراقيين كبار.
في إحداها تحدث أحدهم عن أجواء القاهرة التي تفتقدها العواصم الأخرى، خص في كلامه ما أسماه “الوسطية الحياتية” وقال إن المسجد ليس بعيدا عن مكان السهر والترفيه، يخرج السهران الذي تدركه صلاة الفجر فيدخل المسجد ليصلي.
العراقيون شعب ذكي طموح خلاق، لو أتيح لهم مناخ حر منضبط لأصبحت العراق القوة الصناعية والاقتصادية الأولى في الشرق الأوسط.
أمريكا والغرب لم يستهدفوا في الحقيقة نظام صدام حسين، فما أيسر عندهم من الإطاحة بالأنظمة، لكنهم أرادوا هدم ذلك البلد العملاق وعاصمته بغداد بتاريخها الضارب في الجذور وحضارتها العريقة البازغة.