آراء وأعمدة

الكاتب والإعلامي العربي الكبير يكتب لكم دفتر فراج

أيامنا وأيامهم في رمضان (2)

تتداعى الذكريات وتمر أمامي كشريط سينمائي وثائقي من رمضانيات مرحلة الطفولة والصبا في قريتي، إلى مرحلة أخرى طولها 12 رمضان في جدة بالسعودية، مكثت خلالها أياما وليالي في مكة المكرمة والمدينة المنورة.

وبين المرحلتين سنوات طويلة من التعليم والدراسة الجامعية ثم فترة التجنيد التي قضيتها في منقباد بأسيوط.
في المقال السابق تحدثت عن رمضان القرية في زمن طفولتي وصباي، ولها أعمق تأثير على شخصيتي حتى الآن.

في حياة المدن، لا يوجد ما يستدعي استدعاء الذاكرة، فيما عدا السنة التي قضيتها في التجنيد، حيث ألحقت بالشئون المعنوية، ومنها تم توزيعي على منطقة منقباد في أسيوط بصعيد مصر.
كنت هناك في الجهة القريبة من إقامة ومكتب قائد المنطقة الجنوبية العسكرية، وهو اللواء أركان حرب محمد الفاتح كريم.
رحمه الله، شخصية عسكرية فذة وصارمة، مجرد ظهوره أمامنا يرعب القلوب ويرجفها.
ورغم أني في الشؤون المعنوية، كنت أكلف بالخدمة أمام إقامته، وكثيرا ما جاءت في الفترات الليلية.

وذات ليلة في رمضان كلفت بالخدمة، وأنا ذاهب من مسجد المعسكر الذي كنت ضمن العاملين فيه من عساكر الشؤون المعنوية، لاستلام خدمتي، فاجأتني صيحة من خدمة قريبة من مكتب القائد عن كلمة سر الليل، وللأسف نسيتها، وكانوا قد أخبرونا بها في طابور الخدمات، وحصل ما حصل بعدها من تأخري عن استلام خدمتي، وكنت سأتعرض لعقاب قد يصل إلى المحاكمة العسكرية.

لكن الله سبحانه وتعالى كتب لي أن اختاروني بسبب بلاغتي في الخطابة ولغتي العربية الجيدة، تقديم حفل المنطقة الجنوبية الديني في إحدى ليالي رمضان السابقة على تلك الليلة، وحضرها قادة المنطقة الجنوبية وفي المقدمة منهم اللواء محمد الفاتح.

وبتوفيق من الله أجدت في التقديم بصورة مبتكرة قصيرة حازت على الإعجاب، ظهرت فيها كأني مذيع مدرب وخبير.

والحقيقة كنت أقلد المذيع الشهير في إذاعة القاهرة وقتها الأستاذ صبري سلامة عليه رحمة الله، من طريقته في إبراز الحروف ونطقها بسلاسة، وتحريك للكلمات بموقعها النحوي السليم، وبصوت عميق.

نال ذلك استحسان الحاضرين وكان بمثابة اعفاء لي فيما بعد عن غلطة نسيان كلمة السر.

أول مهامي في الصباح استلام صحف الصباح ومطالعتها، وتسحيل أسماء الوفيات لتقديمها لمكتب القائد لإرسال برقيات التعازي.
المسجد وتقديم الاحتفالات واختصاص مطالعة الجرائد الصباحية، جعل خدمتي في الجيش بمثابة إبقائي على تواصل بمهنة الصحافة والإعلام التي درستها في الجامعة، وتدريب عملي على التواصل الاجتماعي والعلاقات العامة وجرأة الظهور أمام قيادات في مجال يخضع للضبط والربط والصرامة ولا يحتمل إلا الحقائق.

ذلك أفادني فيما بعد في أهمية التدقيق وعدم الاعتماد على مصدر واحد، وإهمال المعلومة التي فشلت في تأكيدها من مصدر ثان.
وقد قرأت كثيرا أثناء دراستي عن أهمية المصدر الثاني في أسلوب التحرير الذي ابتكره “بن برادلي” أشهر رؤساء تحرير عصره، ورئيس تحرير الواشنطن بوست التي حولها إلى واحدة من أكبر الصحف العالمية، وكشفت في فترة رئاسته لها فضيحة ووترجيت التي انتهت باقصاء الرئيس الأسبق ريتشارد نيكسون ومحاكمته عام 1974.

برادلي أول من مزج بين الأخبار الجذابة المثيرة والمتفردة ومتابعتها عبر تحقيقات استقصائية واستطلاعية، ما يعني مزج أسلوب الجريدة الخبرية بالمجلة الأسبوعية.

من هنا وصفه الرئيس أوباما في نعيه عند وفاته عام 2004 عن 93 عاما، بأنه رجل أخبار حقيقي درب جيشا من الصحفيين على اقتحام المهام الصعبة كفضيحة ووترجيت، وأوراق البنتاجون، وهي أوراق مسربة أصر على نشرها بعد التأكد من صحتها رغم نصيحة مستشاري الجريدة القانونيين الذين رأوا أنها قد تعرضهم للمحاكمة والسجن.

وبالفعل دخلت الصحيفة بعد النشر في معركة قانونية انتهت بحكم قضائي بحق الصحف في نشر الوثائق المسربة.

نشأت بيني وبين هذه الصحيفة ألفة حقيقية، فقد كنت ابتاع بعض نسخها من بائع صحف في محطة الأقصر أثناء دراستي في قسم الصحافة بكلية آداب سوهاج، والعبد لله ثالث دفعة بعد تأسيس هذا القسم، ويأتينا أساتذة صحافة كبار وصحفيون مشاهير من القاهرة.
وفي الجيش كنت اصطحب نسخا منها إلى وحدتي ومعي قاموس جيب صغير، وأقرأ فيها ما يتيسر لي، علما بأني استفدت كثيرا من مخالطتي السياح الأجانب أثناء إقامتي في الأقصر.

وفي فترات الراحة خصوصا أثناء الليل أظل أقرأ فيها أثناء وجودي في المسجد خصوصا في ليالي رمضان بعد صلاة التراويح أو القيام إلى أن يغلبني النوم.

كنت متيقنا بأن الواشنطن بوست التي يتولى رئاسة تحريرها بن برادلي، معلم حقيقي لمن أراد تعلم الصحافة على أصولها.
وقد ظل رئيسا لتحريرها من عام 1968 حتى عام 1991 وثلاث سنوات قبلها مديرا للتحرير.
كنت أنام في المسجد، ومعي المجند الذي يتولى الإمامة، شيخ أزهري رائع من أصفون في اسنا في صعيد مصر، وأسنا ذكرها الرحالة المغربي ابن بطوطة وأثنى على ناسها وشيوخها.
غلبني النوم بعد أن قضيت وقتا كبيرا مع هذه الصحيفة ثم تناولنا السحور.
واستلقيت في مكان خلف المنبر، وفشلت محاولات المجندين في إيقاظي لصلاة الفجر.
وهنا تدخل الإمام الأزهري وكان ابن نكتة مشتهرا بخفة الدم دون أن يضحك أو يظهر عليه أنه يمزح.
قال لهم: اتركوه. إنه مسيحي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى