بانوراما

الجامعي يكتب بحرقة عن الكرة التي رمت به في السجن وأفقدت والدته نعمة البصر

أطلس توداي: واشنطن – محمد الجامعي-

ثقافة الاعتراف مفقودة في بلدنا الا عند ملكنا محمد السادس الذي يعير قيمتها ، و كرم الأمهات اللواتي أنجبن هؤلاء الأبطال الذين جلبوا لنا الفخر.
‏‎هاجرت مكرها وأبعدت قهرا عن وطني بتهمة العشق الممنوع، حين تمت إدانتي بفيض الحب للعبة جرني إلى القضاء. كنت أشعر أن الأسر لم يقتصر على شخصي بل امتد إلى أمي التي عاشت معي كل فصول الحكاية.
‏‎لكن لماذا تقتحم أمي هوايتي أكثر من أبي؟
‏‎أبي كان دائما يشجعني و لا يقف في وجهي، بينما أمي كانت تعارض شغفي، وتتصدى لرغبتي في اقتحام المغامرة، حاولت غير ما مرة أن أفسر سر عشقي لهواية وفشلت في مرافعتي دفاعا عن لعبة لا تستحق منها إشهار “الفيتو” في حقي. لكن في النهاية أدركت بأنها كانت قارئة فنجاني.
‏‎كنت حينما أزورها في بيتها أجدها جالسة في البهو، أقبل رأسها وأجلس أمامها أو بجانبها، وكلما سرقت خلسة نظرة في تقاسيم وجهها، أجدها ترمقني والخوف بعينيها.. تتأمل فنجاني المقلوب، تحذرني من الاقتراب من سور حديقة لعبة محفوفة بالخاطر، قبل أن تشعرني بأن سمائي ممطرة وطريقي مسدود. حاولت أن تصدني وهي تتنبأ لي برحلة من مطار لمطار، ولسان حالها يقول: ستجوب بحارا وبحارا، وستفيض دموعك أنهارا. وستعرف بعد رحيل العمر بأنك كنت تطارد خيط دخان.
‏‎باءت كل محاولاتي التي اختزلت العشق في لعبة، كان الخوف والقلق يسيطر عليها كلما حدثتها عن الكرة، وحين تلمس إصراري تحيلني على المستقبل وهي تؤكد أن الزمن كفيل بإنصافها. حتى في تحذيراتها كانت أمي تتميز بعذوبة الكلمات التي تنساب من ثغرها، كانت الشعلة الحقيقية التي تنير خلايا نفوسنا وتضيء طريقنا. قبل أن يسدل الليل ستائره لا تخلف معنا ونحن أطفال، حصة التربية والأخلاق والقيم.
‏‎تمنيت وأنا في المهجر أن أزورها لأرسم على جبينها قبلة اعتراف، لأقول لها إن الأيام أثبتت صدق تنبؤاتك، سارعت الزمن من أجل تحقيق هذا المبتغى، تمنيت لو ارتميت في حضنها كطفل صغير، لكن القدر كان أسرع مني فقد أبى إلا أن يأخذها دون أن أطبع على جبينها قبلة الوداع، ودون أن تلقي نظرتها الأخيرة علي قبل أن تنطفئ الأنوار وترحل إلى مثواها الأخير.
‏‎رحلت والدتي وفي قلبها غصة من الألم لأنها لم تودع ابنها ولم تذكره بتحذيراتها، رحلت ورحل معها الكثير من الأمل، ماتت دون أن أسير في مقدمة مشيعيها. هذه هي أمي التي كان همها الأكبر أن أعود قبل أن ترحل كي أجلس بجانبها وأشرب فنجان قهوتها السوداء المعطرة.
‏‎تمسكت بأمل رؤيتها حتى وهي في جوف الأرض، قررت أن أبحث عن قبرها وأن أقبل شاهدها وأن أبكيها وأقرأ الفاتحة وأقول لها “كنت على حق. صدقت تنبؤاتك أمي”.
‏‎لم تنطفئ شعلة حب والدتي، ولم تكن الأيام من وضع طبقات غبار على رحيلها، لا زلت تتراقص أمامي صور العلاقة الإنسانية التي كانت تربط بيننا حتى بعد وفاتها، صور تخاطب وجداني بشكل يصعب معه تمالك أنفاسي. سأظل أناجيك في وحدتي لأنك تملكين شهادة إقامة دائمة في دواخلي.
‏‎أحيانا ينتابني شعور بالذنب وأقول في قرارة نفسي في خلوة مع ذاتي، لقد أدت ثمن تعلقها بي غاليا حيث ظل أملها في لقائي ملازما لها وأنا خلف أسوار المعتقل. واصلت أملها حتى بعد إطلاق سراحي، وذلك بعدما اخترت العيش بعيدا عنها في الولايات المتحدة الأمريكية.
‏‎لقد أدركت أنني كنت جزءا من محنتها، لكنني لم أكن أدرك رفضها لكرة صغيرة بمواجع كبيرة، إلا حينما تحولت هذه اللعبة الى نقمة رمت بي خلف القضبان. اعتادت والدتي المجيء كل صباح إلى باب السجن لتظل طيلة اليوم جالسة أمامه حتى غروب الشمس، وهي تأمل أن يفتح الباب ليخرج ابنها، وكلما غادر نزيل المعتقل اشرأب عنقها لعل المغادر يكون ابنها، قبل أن تعود إلى مكانها الذي لم تراوحه مهما كانت تغيرات أحوال الطقس.
‏‎كم كنت أتمنى أن تنتهي مأساتها بمجرد خروجي من السجن، ولكنها رافقتها لسنوات عديدة. منذ أول يوم دخلت فصلا آخر من فصول المآسي حيث كانت أمنيتها الوحيدة أن أعود إلى الوطن، وكم كانت تتمنى أن تفتح عينيها عند مطلع كل شمس فتجدني إلى جانبها، وكم كنت أتمنى العودة تحت جنح الظلام قبل طلوع الشمس و أرتمى بين أحضانها، علني أخفف عنها بعض آلامها التي كانت منبع حزني لكن القدر كان أسرع منى ومنها.
‏‎لقد تحملت كل المآسي إلا نبأ وفاة والدتي فكل المآسي تحملتها على مضض، إلا هذا الخبر الذي تلقيته في فجر إحدى الليالي، حين حلقت بعينيها بحثا عني بين إخوتي الذين جاؤوا من بعيد لإلقاء النظرة الأخيرة على جسدها الممدد على السرير في انتظار تسليم الروح لبارئها.
‏‎ووقفوا على راسها في تلك اللحظة وحينما لم تعثر علي لفظت بآخر كلماتها: “لا فائدة من الانتظار يا ولدي لن أراك بعد اليوم” ثم قالت لإخوتي أطفؤوا الأنوار أريد أن أنام ثم رحلت إلى مثواها الأخير.
حينما علمت بأنها فقدت بصرها من كثرة البكاء شعرت بالذنب ، لأنني كنت السبب .
‏‎حاولت مرارا أن تأتي عندي للعلاج في الولايات المتحدة الأمريكية، لكن وضعيتي القانونية لم تكن قد سويت بعد، وبالتالي لم أكن أتوفر على أي وثيقة تساعدني على التكفل بها، حينها سافرت إلى ميامي وقابلت طبيبا سوري الأصل، طلبت منه مساعدتي والتكفل بوالدتي، لم أنس جميل هذ الرجل الذي قبل العرض على الفور، أديت له تكاليف العملية مسبقا وحينها بعث بفاكس يتضمن فاتورة العملية والتكلف بوالدتي شخصيا.

كنت أظن بعد كل هذه الإجراءات أن والدتي ستحصل على تأشيرتها بسهولة، لكن عقبة أخرى برزت حيث أن مصلحة التأشيرات طلبت من والدتي شهادة طبية من طبيبها في المغرب تشير على أن العملية الجراحية لايمكن إجراؤها في المغرب، بعدها التمست من أختي أن تطلب الدكتور بن سودة اختصاصي في جراحة العيون مساعدتها لحل المشكل،بصفته طبيبها وقد سبق و أن قام بجراحة عين والدتي، لكن مع الأسف رفض وكادت كل الجهود أن تمشي في مهب الريح لولا تدخل أحد الأصدقاء يدعى محمد حيرش، صديق حميم ربطتني به صداقة متنية، إذ بمجرد أن سمع الخبر قام بإحضار طبيب على نفقته إلى بيت والدتي و بعد أن فحصها قدم لها الوثيقة المنتظرة، و في اليوم التالي حصلت والدتي على تأشيرتها.
‏‎فور وصولها إلى أمريكا أجريت لها العملية واستعادت بصرها، واستعدت أنا أيضا بصيرتي، لكنها فارقت الحياة وفي نفسها حرقة وداع عن بعد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى