الإعلامي والكاتب العربي الكبير يكتب لكم دفتر فراج اسماعيل
صُنَّاع الموت
عندما كنت أغطي الحروب في البوسنة والهرسك، وكوسوفو، وأفغانستان، وأرمينيا وأذربيجان.. كنت أطمئن نفسي بأننا كعرب لا يمكن أن نبلغ هذا الحد من سفك الدماء البريئة.
أنا خصوصا كنت ارتعب من رؤية “الميت”. ويرعبني أكثر أن يكون مقتولا في حادثة متأثرا بأساطير الصعايدة عن “الصول”.. ينطقونه “الصٌن” أي الروح التي تسكن مكان الحادث أو أي بقعة تتلامس مع جثته.
إلا أن أول تجربة عملية مع بقايا مقتول في حرب، اعتبرتها بمثابة تدريب على تغطية الحروب وما تخلفه من دماء وجثث.
بت ليلة في مدينة “الدمام” السعودية تجاورني متعلقات ضابط أفغاني من قوات رئيس نظام أفغانستان الشيوعي نجيب الله الذي جاء الاحتلال السوفييتي لدعمه.
في الحقيقة كانت أول حرب بالوكالة بين القوتين العظميين، الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة، ونجحت استخبارات الأخيرة في استثارة المشاعر الإسلامية ضد الوجود السوفييتي في أفغانستان، باعتباره شيوعيا، وخلقت ظاهرة “الجهاد الأفغاني” وساعدت في إرسال آلاف المتطوعين إلى هناك، من العالم الإسلامي، خصوصا الدول العربية.
أحدهم لاعب كرة قدم في نادي المحرق البحريني، عرفت أنه كان قناصا ماهرا لجنود نظام نجيب والروس.
سافرت إليه في الدمام في أحد أيام شهر رمضان، واستضافني في منزله، وأصر أن أفطر المغرب عنده، وأقضي الليلة الرمضانية مع حكاياته التي جئت من أجلها.
وجدت نفسي في غرفة تحوي متعلقات ضابط قام بقتله. بالأحرى قام بأسره ثم نفذ فيه الإعدام بطريقة بشعة.
كانت مثل تلك القصة الدموية تعتبر بطولة نادرة في ذلك الوقت، ومقبولة أمريكيا وغربيا.
نشري لها أغضب السفير السعودي في بغداد وقتها، وأرسل رسالة شديدة اللهجة لإدارة الصحيفة باعتبارها إساءة للجهاد الأفغاني.
رغم أنه رمضان، والشياطين محبوسة فيه، إلا أنني عشت ليلة رعب، وأنا أتخيل الزي الذي كان يرتديه عند إعدامه، وعلقه اللاعب في جزء من الحجرة كأنها متحف، يتحرك نحوي وسيطبق على رقبتي!
وعندما استأذن اللاعب السابق، والمجاهد فيما بعد، لإحضار القهوة العربية والتمر، تعلقت به متعللا بأني لا أحب القهوة والتمر.. وهكذا مع كل ما عرضه من ضيافة.
المهم انقضت ليلة مخيفة، إلا أنها كانت بمثابة تدريب عملي لما سيأتي لاحقا.
في البوسنة وجدت نفسي اتنقل بين عشرات الجثث التي ذبحت أو قتلت بالرصاص. ولم أجد خوفا في أن أمسك بقايا الفستان الذي ارتدته العروس في ليلة زفافها ثم كفنت به بعد أن قتلها الصرب.
الدروس التي استخلصتها أنه لا يوجد مبرر واحد للحروب والمعارك التي تقتل الحياة وتدمر المدنيين وتشتتهم.
وأن أبشع أنواع الحروب، تلك التي تشعلها صراعات الكراسي والتنافس على السلطة. وأتذكر أنني كتبت أن الرئيس علي عزت بيكوفيتش أخطأ عندما أعلن انفصال البوسنة عن يوغسلافيا السابقة، فالمسلمون باتوا وقود ذلك الانفصال وضحاياه، بعد أن كانوا يتمتعون بأفضل مستويات المعيشة في يوغسلافيا متقدمين على الصرب والكروات.
وكتبت غير ذي مرة أن النموذج التركي “العنيف” سبب ردة الفعل العنيفة ضد الإسلام في البلقان وأرمينيا، على عكس الفتوحات العربية التي اتسمت بالسماحة والرحمة والعفو عند المقدرة.
وحتى في بلاد مسلمة كمصر، تركت الشخصية التركية ممثلة في الدولة العثمانية، انطباعات سلبية لدى الشعوب، ترجمها المصريون بالنكات الساخرة.
وظننت أن عالمنا العربي لن يصل لعنف تلك الحروب في يوم من الأيام، وأننا بلاد سلام وتسامح.
ما حدث بعد ذلك أثبت مقدار الوهم الذي عشت فيه. فصراعات السلطة والنفوذ والموارد قضت على أي تسامح وقوضت السلام والسلم الاجتماعي.
رأينا ضحايا أمراء الحرب في الصومال والعراق وليبيا وسوريا، واليمن، وأخيرا في الخرطوم.
لا أعلم إلى أي مدى ستتمدد
خارطة الحروب الأهلية والمسلحة والمهالك الإنسانية؟!.. ولا أتصور أي سلطوي لا يهتز لتحويل عاصمة حضارية كالخرطوم إلى دمار وأطلال وجثث مترامية في الشوارع ولا يجرؤ أحد على دفنها حتى لا يجد نفسه ممددا بجوارها.
لا ينتهي الأمر في الخرطوم. في مدينة الجنينة عاصمة ولاية غرب دارفور في غرب السودان تصطاد القبائل بعضها كأنها في نزهة لاصطياد العصافير أو الحمام الجبلي، ويدوسون على جثث القتلى في الشوارع كأنهم يتمشون فوق السجادة الحمراء مع التصفيق والتهليل كأنهم يوزعون جوائز الأوسكار!
أتحدث عن مدينة ازدهرت بأرضها الخصبة وحدائقها ومناظرها الساحرة ووفرة مياه الأمطار والجوفية.
اكتشفت متأخرا أنه لا فرق في الحروب العبثية المهلكة بين جنس وآخر. كلهم جزارو بشر وقناصة أرواح بريئة ومطفئو أنوار لحياة الناس والحيوانات وحتى زروع النيل البريئة.
بعض الأسر في الخرطوم أعدمت حيواناتها الأليفة خوفا عليها من الموت جوعا!
ولو استنطقت هذه الحيوانات لأسفت على معيشتها على مقربة من صناع الموت ومدمري الحضارة الإنسانية.
وترى وتسمع من يتراقصون بأسلحتهم ويهتفون “الله أكبر” مع أنهم يتخطفون أرواحا بريئة.