الإعلامي والروائي والمذيع العربي الكبير حامد الناظر يكتب لكم من الدوحة
أطلس توداي: حامد الناظر
حبل الغسيل ……توقف BBC عربي…
لست حزينًا على توقف بث خدمة اللغة العربية في إذاعة BBC عبر الراديو، لأنه كان ينبغي أن تتوقف منذ حوالي عشرين عامًا أو أكثر، منذ أن كسر حسام السكري وسمير فرح ورفاقهما رصانتها العتيقة، واستبدلوا أصوات مذيعيها الرخيمة بأخرى مبحوحة ومسطحة وحولوها إلى ملهاة للبرامج التفاعلية والثرثرة غير المفيدة، ومن ثم استُغلت هذه السياسة لتعبئة الوقت بسبب قلة الموارد على مدى السنوات الفائتة، وما أعجب الفرنجة حين تشح مواردهم.
مع ذلك، ظللت أستمع لبي بي سي على راديو السيارة كنوع من الوفاء، لكنني كلما وضعت المؤشر على موجاتها في أي وقت، في الصباح أو الظهيرة أو بعد منتصف الليل قفز إلى سمعي صوت محمد عبدالحميد أو نورالدين زورقي أو رشا قنديل وبرنامج “نقطة حوار” بموسيقاه الباعثة على التوتر لساعات لا نهائية من البث المباشر والمعاد الذي ينهك الأعصاب. جميعهم زملاء رائعون وأكفاء لكن بي بي سي وضعتهم في مكان غير مناسب، شبيه بأولئك الذين يصيحون على بضاعة كاسدة في سوق مزدحم.
لم تكن هذه الإذاعة -قبل هذا- مبعثًا للتوتر أو الملل على الإطلاق، أو شبهة الانحياز القومي لشعب واحد وثقافة واحدة على حساب ملايين أخرى تتابع بثها من المحيط إلى الخليج، لكن منذ عشرين عامًا تغير كل شيء. نشأت مثل غيري على بصمتها المميزة في الصوت والأداء. كانت رتيبة بحق، رائقة، وهذه الرتابة كانت جزءًا من شخصيتها في الأثير كأنها تنبع من قلعة سحرية أسطورية لا يمكن سبر غورها أبدًا.
كانت أصوات رشاد رمضان وأيوب صديق ومحمود المسلمي وعلي أسعد وحسن الكرمي وماجد سرحان وهدى الرشيد وحسام شبلاق، وكأنها لكائنات أسطورية غير حقيقية، لا يمكن إدراكها ولكن يمكن تخيلها فقط وهي تنوس في حدائقها السحرية (قول على قول – السياسة بين السائل والمجيب- همزة وصل- ندوة المستمعين – العالم هذا الصباح وهذا المساء .. إلخ) وتأتي بالعجائب، حتى جاءت الصورة وجعلت ذلك كله محض شجن.
حلمت في تلك السنوات البعيدة أن أكون جزءًا من هذا العالم السحري، وكبر حلمي معي، حتى إذا جاءت اللحظة المواتية أدرت له ظهري، وقد كان شيئًا عجيبًا. في العام ٢٠٠٧ عندما بدأ بث تلفزيون بي بي سي، رشحني الأستاذ فارس خوري -الذي عملت تحت إدارته في قسم الأخبار في تلفزيون MBC لثلاث سنوات ثم انتقل إلى لندن مع تأسيس تلفزيون بي بي سي عربي- لأكون مراسلًا له في الخرطوم، وبعث إلي الأستاذ حسام السكري عرض العمل لكنني اعتذرت منه لأسباب لا يمكن سردها هنا، ثم انتقلت المهمة لزميلي الرائع محمد الطيب ومن بعده الزميل العزيز محمد محمد عثمان وما يزال.
هذه كانت حكايتي الشخصية الوحيدة مع هذه المؤسسة العريقة التي أحببتها، وهي مما لا يمكن التباهي به إلا أنها مثال فقط على الاحتجاج المعوج على خيبة الأمل فيها. كان هذا الراديو جزءًا من حياة الملايين ومن يومياتهم، وكان محايدًا وطافيًا فوق كل الانحيازات القومية والقُطرية والاعتبارات الثقافية لعقود طويلة ولم يعد كذلك الآن، ولهذا كان ينبغي أن يُلحق بإذاعة “صوت العرب” في القاهرة أو يتوقف من دون أي أسف.