مشانق مغروسة في الأفق
أطلس توداي: هند بومديان
لطالما كنت دائماً على مسافة عقرب واحد ودائرة و حلم لم أستطع لاختراقه سبيلاً ل أتدور هناك كل يوم وأعلق وجهي كضحية باهتة تنظر إلى العمر باستخفاف لكل الذين صعدوا أو انتظروا أن يلتهموا أطرافهم من جديد.
عند آخر الحلم كانت الساعة في منتصفها فينقطع حبل الأمل الذي علقت عليه كل ضحكاتي، و كلما غابت الشمس وطأطأ برأسه قرصها الدوار أو كلما وقعت على الأرض نجمة وماتت أو كلما دُهس حلم على ناصية الوجع أو وئد جنين الأمنية أفرغ كل حمولتي في جوف الأقدار و أعود إلى عبثية الدوار و حينها فقط، اقترب بامتثال نحو النافذة واقتلع الزهرة التي لطالما احتضرت، ثم لفت حولها حبل الحنين المشدود إلى سقف تمنياتي لأتنفس رحيق صمتي بهدوء تام.
فأنا لم أكُن بهذا البرود ، لكن لوهلة أصابني في مرحلة ما من حياتي ، فالفكرة التي تمشي على الأرض وتجول بيننا مفخخة بطبيعتها تقبل الانفجار و أنا انفجرت فأصبحت أختزِل علاقاتي بعدد أصابعي ، لقد قطعت رحلة شاقة مع الراحلين حتى قررت أخيراً أن أستريح مع نفسي ، تصالحت مع دواتي وتقبّلت أخطائي واقتنعت بضُعفي ، ثمّ مضيت أهوّن على نفسي عناء الهموم وأربت على أكتافي في لحظات الضعف ، فالفكرة التي تمشي على الأرض وتجول بيننا متخمة بالكرامة، ومنتفخة بالكبرياء، ولعلها مفعمة بالتكبر. هي تشعر بالإهانة وتنتقم أحياناً، وتموت جوعاً بيننا فنتلاشى حتى حين نسقط فلا ننتظر أحدا أن يساعدنا في النهوض فقد اعتدنا أن ننهض وحدنا ونداري كسورنا ، نحن الآن نعيش أعلى مراحل النضج ولا يهمنا سوى راحتنا لقد تغيرنا جذريا وأصبحنا أصدقاء أنفسنا،أما الأحلام التي تحلق فهي بعيدة عن متناولنا نحن الذين نخون، فتعاقبنا بمزيد من الارتفاع وقد تنتحر قهراً.
لحظة ، هل جرب أحدكم يوماً أن يطير؟ أن يحترق؟
نحن ننظر إلى الشمس كل يوم ونغبطها على نورها، ولكننا على الدوام نجبن أمام الاحتراق
المعادلة بسيطة جداً هنا: اعتمر الفكرة وطف حولها لتحترقا معاً ،و حينها فقط يتناسل النور، النور ذاته الذي يتغذى على العتمة التي تسكننا ،تبا أهذي من جديدي فقد أصبحت أعيش حالة من الصمت ، ما عاد يزعجني شيء ، ما عدت أعاتب أحد على تصرفاته ، توقفت عن الشكوى من الضغوطات مهما بلغ حجمها ، أصبحت أتجنب المناقشات الطويلة واحتفظت بتفاصيلي لي وحدي ، صرت أستقبل كل شيء بهدوء ، أصبحت شاردة رغم تركيزي بمهامي اليومية ، تائهة روحي رغم حضوري وسط الجميع ، لست يائسة ولست حزينة ، أعيش حالة هدوء وصمت داخلية ، لقد أرهقتني الحياة بتفاصيلها فلم أجد سوى الصمت يعبر عما أشعر به.
وتبقى الذاكرة أسيرة الماضي والروح تبحث عمن يحتويها، غباء منا سجنا التفاصيل في ذاكِرتنا للأبد وليتنا نستطيع إطلاق سراحها فترتاح هي ونرتاح نحن أيضاً.
مرت سنوات عدة ولازالت ألف ذكرى وشعور يؤلمني ، لازلت أسأل نفسي يوميا:كيف هنت وهانت أحلامي على الزمن ؟، مازلت أشتاق لتفاصيل ذكرياتي التي خططت لها ، مازلت أحن لضحكة ارتسمت يوما على شفاهي ، مازلت أفتقد كل كلمة وحديث دار بيني و عقلي ، مازلت أبحث عن سبب حقيقي أقتنع به ، كيف وصلت إلى النهاية ، كيف انتهت سنين الحلم بسهولة ؟مرت السنوات ومازلت لا أدري كيف السبيل للنسيان ، لقد تركت ندبة في صدري جعلتني كلما أوشكت أن أطمئن لحلم يأكلني الفزَع ،فصرت متعبة أنا من الماضي، مضى وبقي راسخا في عقلي و يبدو فعلا أن هناك ثقب ما في قلبي تسرب منه تعبي.
فخورة بنفسي لأنني قضيت حياتي أسعى بطريقة ما إلى الوصول في النهاية لحياة مسالمة ، لم أنو أبدا وأنا في طريقي أن أخدش أحدا أو أسيء إليه ولا أسمح في المقابل أن يزعزع أحد أمان خطوات كلماتي الهرمة، التي ترفض الإعتراف بقدر لا يشبه أحد.
فخورة بنفسي و كفى لأنني كنت طوال حياتي أنا، بصورتي العادية الغير مبهرة ، لم أتصنع الكمال يوما بقيت بعفويتي ، صريحة بأفكاري ومخاوفي ، صادقة بمشاعري لم أخدع أحدا ، كنت دوما أعرف من أكون لكنها الحياة غير عادلة وأنا لا زلت هنا منذ آخر مرة شعرت بيدي، يدي التي اتكأت على كلمات مشبعة بالأفكار المببلة حد الغرق.
وكأن الليل قد قال كلمته الأخيرة، غير آبه لتلك المشانق المغروسة في الأفق، وكأنه يستخف بمصيره المحتوم ذات صباح.
ترى، هل يعلم الجلاد أن الموت اليومي يفقد الكثير من رونقه ويتراخى الماضون إليه بتهمة التكرار؟؟
ألا يحق لي الولادة مرة واحدة؟ لمرة واحدة فقط وبعدها لا يحملني غياب ولا يحضنني تراب
حلمي أن يبقى لليل أفياء تضيئ ، وفي النهار باحات مظللة بالعتم المعتق، إن الحياة لا تطاق بلون واحد لا تقلقها جغرا…