…إلا أرضي
بقلم : لطيفة بجو
يتساءل كثيرون هذه الأيام عن الحلول التي يمكن أن تعمد إليها الدولة من أجل إعادة إعمار كل الدواوير المتضررة من الزلزال الذي ضرب بلادنا يوم 8 شتنبر الجاري، وكثرت التحاليل والنقاشات وتباينت الآراء بين من مع أن يتم نقل الساكنة المنكوبة التي فقدت كل ممتلكاتها إلى مناطق أخرى في المدن أو السهول، وبين من يقترح إعادة بناء المنازل بأكملها في نفس الأماكن التي كانت تتواجد بها قبل الكارثة.
إن قرار إعادة بناء الدواوير المنكوبة بيد السلطات حاليا، وستتخذ لا محالة الحل الأنسب للساكنة، بتعاون كل الجهات المعنية في بلادنا… بعيدا عما يكتبه الكثيرون خلف شاشات هواتفهم، وما يعتقده عدد من “المؤثرين” الذين يحسبون أنهم يسدون خدمة للمنكوبين عندما يطالبون الحكومة ببناء منازل لهؤلاء في المدن. لو كلفوا أنفسهم عناء طرح السؤال على بعض المعنيين بالأمر، لاكتشفوا بأنهم يرغبون في البقاء في دواويرهم وأن الحل يكمن في إعادة تهيئة وتعمير المناطق المنكوبة نفسها وتعزيزها وتطويرها، حتى توفر كل وسائل الراحة للساكنة- وهو الأهم- وتعود كما كانت مراكز ووجهات سياحية ببلادنا. كما أن الغوص في نقاشات من قبيل سبب وجود الأمازيغ في أعالي الجبال، وإذا كان قد تم طردهم من السهول من طرف العرب الذين قدموا لفتح الغرب الإسلامي أم من قِبل المستعمر الفرنسي، فلن يفيدنا في شيء، لأننا كلنا مغاربة.
لم يفكر أحد منهم في ضرورة استشارة المعنيين بالأمر وسؤالهم عما يحبون أو يكرهون، وأظن أنه من العبث اعتقاد البعض بأن بناء منازل جديدة للعائلات في مناطق بعيدة عن الجبال، ستكون الحل الأفضل والأنسب لهم، حتى وإن كان سكنا عصريا يتوفر على كل أساسيات وشروط السكن المريح، مرتبطا طبعا بالطرق الرئيسية المعبدة، ويقيهم قساوة برد الجبال في فصل الشتاء… إن معايير العيش أو السكن الكريم هي نسبية وتختلف من شخص لآخر. لقد ازداد أبناء هذه المناطق في تلك الأرض وتلك الجبال وكبروا وترعرعوا فيها، بكل محاسنها ومساوئها، بإيجابياتها وسلبياتها. ما لم يفهمه أصحاب طرح نقل الساكنة هو أن من نتحدث عنهم يرتبطون بتراب أرضهم وصخورها ورياحها، كارتباط الطير بأرضه التي يعود إليها كل عام… لأن رابطة الأرض تشبه تماما رابطة الوطن. إنهم يحبون أحجارها وأشجارها، ويعشقون طرقها الوعرة ومسالك جبالها الصعبة، كما أنهم يحسون بالفخر وهم يتحدثون عن منازلهم، حتى وإن كانت بسيطة ومبنية من الطين والقش والخشب، وحتى وإن كان عليهم تسلق الجبال للوصول إليها. إن حب الأرض كحب الوطن، شعور مقدس دفين في القلب والوجدان، ويصعب استئصاله. إن الأرض موطن الأجداد والآباء، ومنبع كل الذكريات، ومرتع الصبا، وحبها والارتباط بها ينمان عن الإخلاص والوفاء. ومن ليس له وفاء للأرض التي شهدت ازدياده وترعرعه، فلن يكون له أي ولاء لوطنه ككل؛ فحتى الحيوانات والطيور والأسماك ترتبط بأرضها، فنراها تعبر الأميال والأميال لتعود في هجرة موسمية إلى مسقط رأسها، بل ومنهم من يفقد حياته بمجرد مغادرة وطنه وأرضه. فكيف يعقل أن يستهون بعض المواطنين بذلك ويفكرون في اقتلاع سكان جبال الأطلس من أراضيهم بدعوى أن الزلزال قد دمر منازلهم وأن الحياة بالجبل قاسية؟ هل كل من يعيشون في المناطق الحارة أو المتجمدة بدول أخرى مثلا، يرحلون عن أرضهم بسبب القيظ أو البرد القارس؟ لكل هذا، أكاد أجزم أن قاطني منطقة الحوز لن يوافقوا على مغادرة أرض أجدادهم والالتحاق بالسكن في المدن، فقط لأن البعض يعتقد أن ذلك أفضل لهم. ثم إنهم يعتبرون نمط العيش الذي اعتادوا عليه في دواويرهم وقراهم- حتى وإن كان ذلك في قمم الجبال- أفضل ألف مرة من العيش في المدينة بكل محاسنها وايجابياتها وكل ما تقدمه لهم من رفاهية…ولو خيروا، فسيختارون حياة الجبال بدون أدنى تفكير.
إن عملية النقل هاته الذي يحسبها بعض المواطنين شيئا ايجابيا ستكون بمثابة تهجير بالنسبة لمنكوبي الزلزال، حتى لا نقول ترحيلا. قد يقول البعض: وما بال من يهاجر إلى دولة أخرى بحثا عن الرزق؟ ليس هناك أي مجال للمقارنة بين الإثنين؛ فإذا كان وقع الهجرة أخف على الثاني لأنه يعود إلى موطنه كلما أسعفته ظروف عمله وإمكانياته، وقد يعاود يوما ما الاستقرار ببلده بصفة نهائية، فإن الأمر بالنسبة للأول يُعدّ أشبه بالنفي لأنه اقتلع من أرضه واجتثت جذوره.
ختاما، أذَكر فقط بأنه عادة ما ينزعج الواحد منا بمجرد تغيير سكنه في نفس المدينة أو نفس الحي، ويتطلب منه الأمر مدة طويلة قبل التأقلم مع الوضع الجديد، قد تصل أحيانا شهورا وأعواما. فما بالك بمن يريدون اجتثاثهم من جذورهم وإخراجهم من أراضي أجدادهم؟ إنهم يخشون أن يتسبب ذلك في محو ذكرياتهم وماضيهم، وربما تاريخهم أيضا.